samedi 12 décembre 2015

دمعة الفوتجلونية


دمعة الفوتجلونية
كوناتي موسى عمر
روايـــة

(1)
انطلق كل شيء من مدرسة الغابة المقدسة المكتنفة بظلال الأشجار الوارفة، قي حي شعبي يقتسم سكناه البشر والعفاربت والقرود، الفقر والبؤس المعاش فيه ينقل إلى المرء عوز الناس، وهذه المدرسة هي الوحيدة في هذه الحومة، تأوي في رحابها التلاميذ من الأتراب المختلفة، يتفاوت الوضع الاقتصادي لآباء وأولياء أمورهم باختلاف طبقاتهم، الدروب إليها وعرة ومرهبة، تغطيها أشجار المانجو والبون من كل الجهات، ويؤنس الناس فيها هديل الطيور ونقيق الحشرات المتواصلة على الدوام، إن الوعورة والسكون المهيمن على المحيط يجعلان معظم التلاميذ لا يقدرون على المجيء فرادى، ولهذا يكونون في غالب الأوقات مرفوقين بآباء أو أولياء الأمور.

وقدم آل "بالدي" من بلاد فوتا جلون، وهي أسرة متواضعة ومتدينة، وتتكون من الأب المحافظ الذكار السباح العابد... ومن الزوجتين بأبناء مختلفين، اشترى ضيعة صغيرة بنى عليها حجرا سكنها مع أهله، وحفزه تدينه على البحث عن مدرسة بالجوار ليدرس بها أولاده، فاهتدى إلى تلك التي يديرها المدير المقعد الذي جعله شلله يستعين بمعلم يعينه على تدريس الأولاد وتدبير شئون المدرسة، وهو شاب خدوم وعطوف، يحبه التلاميذ كثيرا للباقته معهم وعطفه على الصبيان البؤساء، ويبلغ إحسانه عليهم مداه إلى أنه يقوم بتسديد أجور الدراسة عن بعضهم من راتبه الخاص الذي يتقاضاه من المدير وهو أصلا راتب لا يسمن ولا يغني من الجوع: 1500 فرنغيني، وبالرغم من ذلك فإنه يزهد فيه لأولاد الفئة المعوزة بهذه المدرسة، إنه معلم دمث الخلق والسمعة، تعرفه الحومة وسكانها بالإحسان المميز.
المدرسة مكتظة بالأولاد المنحدرين من كل البوادي، قادت الأسر ومنها الأسرة الفوتاجلونية أقدارها إلى السكنى بمدينةٍ الحياة فيها أرخص وأوفر من حيث الأود، وتتميز بكثافة الغابة التي تدر على السكان بالمواد التي يستهلكها سكانها من الخضر والفواكه واللحوم... وهو الشيء الذي يندر في غيرها، ولهذا ينزح إليها معظم الناس، من كانكان ولابى وغيرهما.
سجل الأب التيجاني الوافد بعض أولاده بهذه المدرسة، ومن بينهم صغرى بناته الصبية البضة الوسيمة والخجولة، تحمل ملامح البلاد الفوتية، إن وسامتها تثير إليها أنظار الدنيا التي لا تشبع من الحبلقة والحملقة فيها، وأما بضتها الفائقة فتجعل الطريق أمامها وأمام المارة منقشعة، وهو الأمر الذي يجعلها تعاني بلاء النظرات المعجبة بجمالها إنها لآسرة القلوب بل وإنها الجمال والوسامة ذاتها، وسبحان من يخلق ما يشاء ويختار.!!!
ترتاد المدرسة وتتعرف فيها إلى التلاميذ الآخرين، وتمتاز عليهم دائما بتضفيرها الفوتي المزدان بالخرز الأبيض، وبسنامل شعري واتد مزبن ومضفر بنقل إلينا الثقافة الفونبة، وهي متخلقة إلى حد كبير، وتدعى هذه الفوتجلونبة: عائشة بالدى، معتدلة القامة بضة الجسم، ويصحبها كثيرا  أخوها الأصغر منها سنا  والمدعو: "ياغوبا بالدى"، يجيئان ويروحان معا، ولا يفارق أحدهما الآخر إلا نادرا.
إنها وأخاها ممن تبقى عليهم أجرة الدراسة، حتى إن المدير قي غالب الأوقات يهددهم بالطرد الأبدي من المدرسة إن لم يلتزم والدهما بالأداء في الحين المناسب، لاحظ المعلم المحسن المدعو سيكوبا كبا المنحدر من كاتكان، الطفلين وأثار انتباهه حيالهما منظرهما المغبر، فالأخت "بالدى" ترتدي دائما فستانا طويلا أسود اللون، منتعلة نعلا مرقعا من جوانبه، كئيبة المنظر، وأما أخوها فيلبس كذلك الثوب المرقع الكبير عن حجمه، ويتخلل جسميهما الصغيرين البثور الكثيرة، والأخ الصغير أكثر وجوما من الأخت وشديد الحشمة، إن مظهريهما ينقلان إلى المرء كونهما من شريحة اجتماعية معوزة.
بالإضافة إلى هذا، فإنهما لا يقدران وقت الاستراحة على شراء الحلويات التي يبيعها بعض الجيران حول المدرسة، وإنما ينعزلان الأطفال الآخرين متسكعيْن على جدران المنازل وهما يرنوان بتوق شديد إلى ما عند أصدقائهم متمنيْن الظفر به، فالفوارق المادية تفصلهم عن الذين يجيئون بالنقود يوميا ويشترون بها ما يريدون بينما هي وأخوها محرومان من ذلك بفعل العوز الذي تعيشه الأسرة، وهكذا تفعل الحياة, ففريق سعيد ومبتهج وآخر بائس وحزين.!
 فأولاد الميسورين يظهر عليهم أثر الثراء، من خلال مظاهرهم الخارجية المتلألئة، ممتلئو الجيوب بالفرنكات، بأيدي ملساء تشبه في رخوتها الوثيرة، بينما يدا الأطفال البؤساء أمثال الصغيرة الفوتجلونبة عائشة وأخيها "ياغوبا" متكنبتان كالصخرة نتيجة الأعمال المنزلية الشاقة، يعيشون في الفقر المطبق، لقد أخلفت السعادة موعدها معهما ومع أمثالهما وأرسلت إليهما بدلا عنها الحزن والبؤس والحرمان الاجتماعي... فكم من المحرومين أمثالهما ممن يكابدون صعاب الحياة في صمت مطبق في هذه المدينة.؟؟؟ إن الحياة نفسها تخلق في نفسها هذه الفوارق الاجتماعية.
يقطر قلب المعلم "سيكوبا" بالحنان عليهما، وفي ذات مساء وقد هددهما المدير بالفصل النهائي عن المدرسة نتيجة تأخر والدهما عن الأداء، نادى الفوتجلونبة بإشارة من يده وموجة العطف والشفقة تنهمر في داخله، فجاءته وقد جعلتها الحشمة تتعثر إذ هي مقبلة عليه، مثلت بين يديه دون أن تدري سبب الدعوة، فرمقها محبلقا في جسدها النحيف ومحملقا في وجها الكئيب، فإذا بمظهر بنقل إليه بؤسا تعيشه عائلتها، ملابسها مرقعة، ونعلها كبير على حجم رجليها، وشفتاها جافتان كأنها صامت دهرا، وحالها تكلمت قبل أن تتكلم هي. فسألها حين دنت منه:
-كيف حالك يا عائشة؟؟؟
-إنني بخير
-أتسمحين لي بأن نتجاذب طرفا من الحديث
-أجل
-جيد فما هو عمل والدك.؟
أجابت بصوت خافت:
-إنه لا يعمل، كان تاجرا ولكنه قد أفلس
وفي حين ذلك، جاء الأخ الصغير الذي يتابعها كالشيء وطله، فسأله بما سأل بها الأخت ولكنه أجاب بكلمات متقاطعة، ولاحظهما المعلم يتبادلان النظرات ذات المعاني، ففهم من خلال وجومهما تكتمهما على أمور ربما يعتبر البوح بها انتهاكا للشرف العائلي وكرامته، إذ كلما أعاد على أحدهما السؤال إلا وازداد تحفظا، وحتى لا  ينتهك ما لا يريدان، غير موضوع الحديث، مدردشا معهما لبعض الوقت ثم أذن لهما بالانصراف فانصرفا.
قرر ساعته أن يقدم لهما يد العون في حدود طاقته وإمكاناته، وعزم على أن يمسح دموعا أسالته ظروف قاهرة، ويراهم قلبا نازفا في الصمت وأن يرد إليهما بعضا من الابتسامة والسرور ويخفف عنهما تلك الهموم الثقال التي ساءت حملا ممثلة في تهديدات المدير هذا من جهة، وعجز العائلة عن توفير المستلزمات الدراسية من جهة أخرى، وبالرغم من إنسانية هذه المبادرة، قلم يكن في مقدور المعلم الكانكاني أن يحقق  كل حاجات الطفلين أو يحل كل مشاكلهما ويجعلهما أسعد الأطفال في الكون لكونه محدود الدخل، مدركا سابقا أن راتبه الضئيل لن يسد الهوة كلها، ومع ذلك اتخذ قرار المحاولة دون أن يدري هل سيفلح فيها أم لا.؟ .
دأب في كل شهر على دفع قسط يسير من رسومهما، وعلى إعطائهما نقودا بين الحين والحين يشتريان بها ما يشتهيان وقت الفسحة، مستمرا على ذلك وقتا غير قصير، علما أن علاقته بهما لم تكن تتجاوز تخوم المدرسة، إذ لم يكن يلتقي بهما إلا في المدرسة فقط. ولم يخطر بباله بالمرة يوم ابتدأ هذه المبادرة أنها سيكون لها شأن عظيم بينه وبينهما على المدى البعيد، وكذا لم يدرك أن مبادرته هذه ستظل في ذاكرة عائشة وأخيها مقترنة بعدم النسيان مدى الدهر.
ذكرت الفوتجلونبة لوالدتها كل إحسان المعلم فسُرتْ به طالبة منها أن تدعو إياه إليها، وهذا ما فعلته في درس الغد، إذ أخبرته بأن والدتها راغبة في رؤيته للتعرف إليه، قبل الدعوة وجاء في اليوم الموالي إلى دارها للمرة الأولى، واجدا عجوزا بضة قاعدة في وسط الفناء وهي تتدفأ بأشعة شمس الضحى اللطيفة، قالت لها إنها أمها التي تريده، دنا منها وتبادلا التحية، وبدا لها أنها تعاني مرضا مزمنا وعليها أمارات الإرهاق،. تحدثت إليه شاكرة إياه على الصنيع الجميل الذي يسديه لصغيريْها، لا تجيد الماننكية كما يجيدها ولداها بالطلاقة المتناهية، فهما أفصح منها لسانا، تجاذبنا طرفا من الحديث لبعض الوقت ثم استأذنتهم للانصراف فأذنوا له.
       تبادلوا الزيارات، يزورهما من حين لآخر متعرفا خلالها أباهما، وهو عجوز عاطل عن العمل، وكلما يقدم إلى الدار يجده معتكفا في زاوية من بيته وفي يده سبحة طويلة يذكر بها، ويرد على تحيته بهزة رأسية، فعلم مع المدة كونه تيجاني الطريقة كما هو الحال بالنسبة لمعظم الفوتجلونيين، إنه رجل محافظ ووجوم، له زوجتان: والدة عائشة هى أولاها، وزوجة أبيها هي الثانية. ولكل منهما بنين وبنات،. وتعرف أفراد الأسرة سواء المقيمين منهم داخل مدينتهم وضواحيها فتعرفوا إليه، وكلما جاء منهم أحد للزيارة العائلية إلا وتخبره عائشة بذلك فيذهب لزيارة هذا الزائر، وهي بدورها تزور دارهم من وقت لآخر وتقضي سحابة أوقاتها في اللعب رفقة أخواته حتى صارت معروفة لديهم، وحدث أن غابت ذات مرة عن دارنا أياما طوال بسبب مرض فإن أهل المعلم سألوا عنها قلقين:
-سيكو أين عائشة الفوتية فإننا لم نعد نراها هذه الأيام، أهي مريضة أم ماذا.؟
-قيل لها إنها كانت مريضة ولما علمت بالخبر ذهبت توا لزيارتها والحمد لله هي بخبر اليوم
-وسوف نعودها
ترجمت الوالدة سرورها إلى الواقع حيث بالرغم من تعبها جسديا ذهبت إلى دار المعلم لتخبر الأسرة الكانكانية بإحسان ابنهم لابنيها فتعرفت الأسرتان إلى بعضهما البعض، فصارت الأواصر بين  الأسرة الفوتية والكانكانية وثيقة، إذ بات معظم أفراد الطرفين يعرفون بعضهم بعضا، وكانت أخواته من أترابها يزورنها وتزورهن في المناسبات وفي الأيام العادية.

(2)
       كانت كثيرة الدموع، تبكي مرض والدتها، وتبكي حال الأسرة المتراكم في بيتها البؤس، والحزن، والفقر...، وتبكي تهديدات المدير المتكررة، تدمع كل يوم حتى تكاد دموعها تنفد، إنها طفلة بكاءة وبكاءة، ولا مثيل لها في  البكاء بفوتا.
 أعاد إليها المعلم سيكوبا شيئا من السعادة والابتسامة، فسعدت بالحياة وسعدت لها، إن الابتسامة كانت دائمة الارتسام على محياها، فكلما برح التلاميذ قاعة الدرس فإنها وأخاها يجيئان إليه ويطوفان به وهما يتمسحان به على شاكلة صغار القطة الأم حين تستلقي على جانبها مترعة حلماتها لهم، فيجيئان فرحيْن ثم يروحان محبوريْن، فيأخذانه من يديه وبها يتلاعبان وهو بدوره يلاعبهما بلطف ورقة مقرصا عائشة من تحت إبطها فتضحك بملء فيها حتى تبدو أنيابها الصغيرة البيضاء التي تنير الكون، لقد ألفهما وألفاه، حيث أضحيا يتوقان إليه ويشتاقان إلى لقاءه حتى أيام العطلة الأسبوعية ويتعجلان على استئناف الدراسة فورا، وأما هو فيتوق بنهم شديد إلى ملاقاتهما حتى إن غيابهما يترك لديه تارة فراغا كبيرا، مما يجعله مضطرما على جمرة الشوق، إنهما لطيفان ويروق له مؤانستهما. وإن الحنين يأخذ بعضهم إلى البعض كلما حان وقت العطلة الصيفية التي يتمنى كلهم أن لا تجيء أبدا أبدا، وأن تدوم الدراسة طوال العام فلا تنقطع.!
       بات أفراد أسرة "سيكوبا" يعرفون الفوتجلونبة الصغيرة تمام المعرفة بل وصارت الحومة تعرفها، بأنها واحدة الآن من الكانكانية، وكانت هناك أسر فوتية تجاور منازلهم منزل المعلم، تغار على عائشة حينما تراها ذاهبة إلى دار"سيكوبا" فقالت لها جارة فوتية ذات مرة معاتبة إياها:
-أنت دائمة المجيء إلى دار أولئك ماذا بينكم وبينهم؟؟؟
-لا شيء إنه مجرد الإنسانية.
-الإنسانية؟!!
-أجل
-وهل في ذلك ما يسوء.؟
-         على أي احذري جيدا.
       كانت ضحية نظرات هؤلاء الجارات اللاواتي  يلكن اسمها كثيرا كلما رأينها جائية إلى دار أسرة "سيكوبا" فيرمقنها بشذرات ذات معنى، فيلكنها حتى تغيب عنهم، ولتسلم من تلك الألسن الطويلة التي تخدش شرف الناس بالظنون، غيرت هذا الدرب الذي تختلف فيه  كلما أرادت زيارة عائلة  السيد"كبا" لم تترد الصغيرة في إخباره بما يضايقها من معارفها ومن بعض الجارات الفوتيات اللاتي يسمعنها الكلام الإقليمي الجارح فقالت وعيناها البريئتان محمرتان غضبا:
-ـأتدري  يا"سيكوبا" ماذا يقوله عنك أولئك القوم.؟؟؟
-وأي قوم تقصدين.؟؟
-أولئك الفوتيات في دار " الحاج جرنو جالو"
- لا أدري ماذا يقلن.
-إنهن وغيرهن من قومنا يُسمعنني ما  يغيظني بالصراحة، إنهن يحذرنني منك إذ يقلن الكلمات الإقليمية
-مثل ماذا.؟؟
-إنها أشياء لا أريد أن تسمعها حتى لا تستاء
- مهما يكن من كلام فلا تأبهي به، إن كليْنا يعاني بلاء هذه الظاهرة الإقليمية، فأنا أيضا متضايق كثيرا من بعض قومنا الذين يقولون عنكم تلك الأشياء التي صارت دملا متقيحا في بلدنا، إن الإقليمية قد قوضت الكثير من العلاقات من هذا القبيل، لم تكن هذه المدينة هكذا في قديم الزمان، لقد كنا متضامنين، متحدين، متحابين، ولست أدري مقدم هذه العقلية التي تفرق شملنا سكاننا اليوم 
       قطبت في مكانها وقالت متعجبة:
-         إذن هم أيضا يقولون مثله.؟؟؟
-         -أجل، إنهم أشد إقليمية من قومك ولكن أنصحك عند ما تكبرين أن تعيشي حياتك ولا تلتفتي إلى الإقليميين أسمعت.؟؟؟
-أجل
 كشفا لبعضهما البعض عن السر المكنون في صدريهما حيال قومهما الإقليميين، فالمعلم أكثرا وعيا بهذه المشكلة الفاشية في مدينتهم بينما هي أقل إدراكا بخطورة هذه العقلية التي تعكر الأواصر الإنسانية بين القبائل الوافدة والمضيّفة وتجعلها بالرغم من ثرائها بالمواد الطبيعية التي تزخر بها متأخرة.!!!
  تابعا سيرهما في تلك الدروب المحفوفة بمخاطر الفكر الإقليمي، بيد أن قطارهما لم يوقفه نباحهم وإنما عمّرها بالأمل إذ تغمرها الفرحة والسعادة حينما يقول لها أحد إنها زوجة "سيكوبا" وهو ذا الكلام الذي تسمعه من الحومة  وتسر به غاية السرور،  وكلما سمعته تفتر فمها عن الابتسامة الخفية وهي تتمنى أن يظل الناس يقولونها لها في كل الأوقات، غير أنها تتظاهر أمامهم بعدم الرضا مع أن ذلك أكبر ما يسعدها في الدنيا وهذا من كيدهن وإن كيدهن لعظيم وعظيم.!

(3)
       مضت خمس سنوات عل هذه العلاقة التي تجمع بين العائلتين: الفوتجلونبة والكانكانية، وكعبت عائشة خلالها وصارت فتاة جذابة تفتن كل ناظر وتفعل بقلوبهم الأفاعيل، بارزة الوسامة والبضة أكثر من وقت ذي قبل،   وكلما تكبر يزداد ولعها بالمعلم سيكو، هائمة به في الصمت، لقد شاع خبره بين أفراد الأسرة، وسمع به معظمهم، وحصل ذات مرة أن جاءت أختها الكبرى المدعوة "جاجا" للزيارة العائلية، فذهب للقاء بها، وللمرة الأولى ترى هذه الأخت هذا المعلم، فقالت له مبتسمة:
-لقد سمعنا عنك كثيرا في "كسدوغو" إنما تفعله لأمي ولأختي عائشة مشكور عليه، ربنا يجازيك، كنت قد رأيت صورتك التي بعثت بها إلينا عائشة أنت رجل مسئول ووفي كذلك، إنها متعلقة بك كثيرا لقد لقد أحاطوني بكل شيء خبرا...
قاطعه بشكل لطيف مجيبا:
-لا  يا سيدتي المحترمة، هذا الذي أفعله لا يستوجب الشكر على الإطلاق إنه مجرد الخدمة الإنسانية
-ما تقوله صحيح ولكن المعروف يشكر عليه صاحبه فأرجوك أن تعتني بها وبأخيها يعقوب...
-سأفعل ذلك إن شاء الله كوني مطمئنة.
عادت الأخت الزائرة، ومرضت الوالدة بعدها بأيام مرضا مزمنا اقتضى نقلها إلى المستشفى المدني حيث رقدت أياما طوال، ذهب المعلم لعيادتها مختلفا إلى المستشفى كل يوم جيئة وذهابا، وفي كل الزيارة تشكره وتظل تشكره حتى تنهمر الدموع على وجنتها، موصية إياه ببنتها وأخيها "ياغوبا" غير أنها ماتت في هذا المرض الذي لم ينفع معه العلاج، وأربكت هذه الوفاة عائشة وأخاها ورجت الأرض من تحت قدميهما، بكاها بكاء شديدا متحسرين على رحيلها المفاجئ، وجاء معظم أفراد الأسرة من مدن مختلفة للتعزية، وكانت مناسبة ليروا هذا المعلم الذي سمعوا عنه كثيرا في مجامع عائلية متفرقة، ذبحوا بقرة صدقة للمتوفاة فحمل "ياغوبا" إلى "سيكوبا" نصيبه " الذي خصته به الأسرة، وهكذا ظلا فاقدين حنانها منكسرين الفؤاد .  


(4)
       تفرق المعزون، وذهبت الأخت الكبرى إلى مقر إقامتها، وأما عائشة فظلت في مدينتها فاقدة دفء أمها وحنانها الذي لن يعوضها أي شيء، وما كان لغيرها أصلا أن يعوضها أبدا أبدا، فالدار عامرة بالناس ولكنها في نفس الوقت خاوية على عروشها بالنسبة إليها ولإخوتها، وأصبحت حياتها بلا طعم ولا مذاق والدارَ جحيما متلظى، وشحبت جراء الصدمة وهول الوفاة، أسيرة  الكوابيس الليلية التي تقض مضجعها، ضاقت بها دنياها واسودت أمامها، لقد ترك رحيلها لديها فراغا كبيرا وهذا طبيعي لدى الفتيات اللاتي يرتبطن بالوالدات أكثر من غيرهن. إنها ستبدأ حياة جديدة مسيرتها ستكون طويلة وشاقة جدا جدا، لقد فقدت الأم والمستشارة والصديقة معا، فهل بإمكان أحد أن يسد هذه الهوة الغميقة.؟؟؟
       تحولت مع المدة إلى خادمة لزوجة الأب التي لم تكن تحبها أصلا، تقوم بالأعمال المنزلية ليلا ونهارا وتحضر الوجبات وتكنس الدار وتغسل الأواني وتصبن الملابس، وتذهب إلى السوق البلدي لشراء مستلزمات المطبخ، وتغرف الماء من البئر، وكلما زارها وجدها مشغولة بعمل ما، وخرجت إليه من المطبخ في ذات يوم مطلية بالدخان المتصاعد كالمصنع وهي تعرق وتعرق فسألها بصوت حزين:
-لماذا تعرقين هكذا يا عائشة.؟؟؟
- إنها الأشغال المتراكمة في هذه الدار
وأضاف متعجبا:
-لقد هزلتْ كثيرا ما بك.؟؟؟
-الجواب سيطول سوف نتحدث عن ذلك لاحقا
-حسنا نفعل ذلك.
رياح عاصفة غيرت مسار سفينة الفوتجلونبة اتجاه المعلم "سيكويا" إذ فجأة تغيرت العذراء الفوتجلونبة منقطعة عنه موقفة عن زيارتها لأخواته غائبة عن دارهم الشهور والشهور الطوال، لقد انقطعت عائشة عن الدراسة، وكان الوالد من يلح عليها أن تواصل فلم يعد على قيد الحياة، ولهذا لم تتردد في تركها، وبالرغم من هذا التغير، ظل المعلم يجيء للزيارة في دارها من حين لآخر، ولكنه لم يكن مرحبا به كالسابق، وكلما يجيء يقال له:
-عائشة نائمة أو خارجة وهكذا
يجلس لوحده هنيهة ثم ينصرف، إنها تتحاشاه دون أن يعرف الأسباب.  فقرر ما دامت الأحوال قد بلغت هذا الحد أن يتوقف مثلها ويلزم داره، ومضت الشهور والشهور والفوتجلونية على عادتها، وحصل ذات مرة أن كان"سيكوبا" قادما من السوق وهي ذاهبة إليها فرآها عن بعد آتية وفي يدها سلة ممتلئة بالتوابل، وظل يرمقها بقلب تواق إليها، ظنا منه أن هذه الفرصة مناسبة للتحدث عما باعدهما عن بعضهما البعض هذه المدة الطويلة، وكان من الصدمة التي أهربت دمه أنه لما دنا منها محييا إياها أنها لم ترد عليه فضلا أن تمنحه فرصة التحدث:
-صباح الخير يا عائشة
-...
-عائشة، عائشة، عائشة...
-....
وقف غارقا في موج الدهشة فاغرا فمه عن حده هازا رأسه مصفقا يديه متعجبا مما وقع له منها قائلا مع نفسه:
- يا له من عجب، إن البشر يتغيرون بين العشية وضحاها كالحرباء الذي يغير لونه على مدار الساعة.!!!
لم تول له الوسيمة الفوتجلونبة أدنى اهتمام وإنما تابعت طريقها دون أن تلتفت إلى ذلك الإنسان الذي رباها، مانحا إياها كل عطفه وحنانه، مدثرا إياها بالدفء والرحمة، لقد صارت تلك التي قضت أعواما في حضنه، في داره، ومع أخواته جاهلة علاقته الطاهرة به.!!!  إنها لمفاجئة وأيتها مفاجئة.!!!.
ظل "سيكوبا" مذهولا بفعل الصدمة المربكة، لقد فاق الأمر تصوره، إذ تصور كل شيء سوى هذا، غادر هذا المشهد العظيم دون أن يجد تفسيرا لما وقع له.
الصدمة بعد الصدمة، حيث لم يزل عنه هول الأولى حتى حطمته الثانية التي تعلقت بمغادرتها المدينة إلى  أختها الكبرى في مدينة أخرى، وهذا ما سمعه من الناس في الحي، وعظمت الصدمة عند ما علم أنها قد تزوجها رجل فوتجلوني مقيم بمدينة "كمسار" ميسور الحال وهو موظف بشركة منجم هناك، وأما "سيكوبا" فمجرد معلم يتقاضى راتبا ضئيلا، أدرك من كل هذا أن هذه العلاقة الإنسانية التي كانت بينه وبينها إنما كان ظاهرها المجاملة بينما باطنها الغدر والخداعة.!!!
لم يكن له مندوحة أخرى إلا أن يستسلم لهذا الأمر وينسى موضوعها بالمرة، وكان قرارا صعبا وفي الوقت نفسه الحلَ الجريء والمريح، ظل متأثرا جراء الذي بدر منها وقد فضحت به في الحومة وجعلته مهانا لدى الأصدقاء الذين حذروه من مغبة هذه العلاقة، تحولت أيامه إلى الأيام السود، رائيا في النساء التناقضات والغدر.
 وبعد أعوام طوال، شارك في مقابلة حاز فيها على المنحة الدراسية إلى الخارج وبهذا طوى صفحتها.   
ومضت عشرون سنة على غيابهما عن بعضهما البعض، لقد أصبحت أماً لأربعة أولاد، وصار هو أباً لولد يعيش معهم في المهجر، وصدق الله حين قال(( وكل في فلك يسبحون)) هي في فلك قد ضاق بها ويكاد يخنقها، وأما هو ففي مثله وهو متسع به وهانئ فيه.
 وفي صبيحة أحد الأيام وهو في الحافلة في طريقه إلى الجامعة التي يدرس بها، إذا بهاتفه يرن ويرن بشكل متواصل، ولما رفع السماعة:
-ألو، من معي؟
أجابه صوت أنثى:
-أنا عائشة
-عائشة من؟!
-التي كانت في مدينتكم ألا تعرفني.؟؟؟
- لم أعد أعرفك، قلتْ إنك منْ لو سمحت.؟؟؟
-أنا عائشة أخت "باباي"
                   وفي تلك الأثناء التي تحاول تذكيره بها انقطعت المكالمة بشكل مفاجئ، إن الشبكة الغينية دائما رديئة، لعنتْ هذه الشبكة التي ضيعت عليها فرصتها، ولكنها ما لبثت أن أعادت الاتصال مرات ومرات دون أن تفلح، هوّد من الحافلة وهو ينبش الغبار عن ذاكرته لعله يهتدي إلى هوية هذه المتصلة فلم يتوصل إلى شيء ذي علامة يذكره بها.
بيد أنها أعادت الاتصال في اليوم الموالي، فرن الهاتف من جديد، رفع السماعة، وكشفت له هذه المرة عن هويتها الحقيقية، إنها عائشة بالده، يا إلهي.! إنها هي  صارخا:
-لقد طال الغياب.!!!
-أجل
-قل لي هل أنت "سيكوبا" المعلم.؟؟؟
-أجل أنا ذاك
-إلهي، كم أنا سعيدة بسماع صوتك هذا الصباح.؟؟؟
-وأنا كذلك.
-كيف حال زوجتك وأولاد.؟؟؟
-هم بخير
-وأنت.؟؟؟
-لست بخير مجهشة بالبكاء.
تبكي وتبكي كعادتها، وسألها مستفهما:
-ما الذي يبكيك، أما زلت تبكين كما علمتك.؟؟؟
فهم أنها تعاني في الصمت لأنها كلما تتصل فإنها تدمع وتدمع حتى لا يكاد يسمع صوتها، صار يتصل بها مرارا وتكرارا ويحاول في كل مرة أن يواسيها وبراهم جرحها إنها منكسرة الفؤاد ومحطمة نفسيا، تقص عليه المشاكل التي تعيشها في عشها الأضيق بها وقالت:
-كل ما يهمني اليوم هو أن أراك قبل أن أموت وهل هذا ممكن.؟؟
- أجل إنه ممكن ولم لا.؟؟؟
-إي ألا إنني معذبة هنا وأفضل الموت على البقاء مع هذا الرجل
-اصبري اصبري...
-صبري قد نفد يا "سيكوبا"
-سوف أتصل بك لاحقا لكي نتحدث مطولا
-وسيسرني ذلك


 (5)
عادت الفوتجلونية مجددا إلى المعلم ولكن أية عودة أصلا.؟؟؟ إنها العودة الفاشلة والحزينة في الآن الواحد وبالعين الدامعة والنفسية المنكسرة.!! بعد انقطاع مضت عليه السنون الطوال وحفلت بالأحداث المشوبة بآلام الفراق من جهته وجهتها، وهو الفراق الذي فرضه على كليهما الأمور القاهرة التي لم يكن لأحدهما خيار مخالفتها. لقد كانت مجبرة على هجران المعلم وعلى الانقطاع عن الاختلاف إلى أخواته منذ أن بدأت تكعب، بيد أنه لم يكن يعرف الأسباب الحقيقة التي كانت وراء ابتعاد هذه الفوتجلونبة عنه، هذه الطفلة التي رباها بيد العطف والحنان إلا بعد عشرين سنة مضت، وهذا ما كشفتْ عنه له في ذات مكالمة هاتفية:
-قولي لي يا عائشة، ما الذي جرى حينما هجرتني صدفة وانقطعت عن الاختلاف إلى دارنا.؟؟
-الحقيقة التي أخفيتها عنك هي أنني كنت مهددة من بعض أفراد الأسرة الذين شحنوني بالأفكار المربكة التي أسمعها منهم يوميا، فهذا يقول لي:
-  إن أصررتْ على الاقتراب من هذا الشاب الماننكي سوف تجدين مشكلة لأنك الآن عذراء.
 وذاك يقول:
- إن الماننكا " موجا"
ولقد كثر ما هوس علي حتى صرت لا أدري ماذا أصنع، وفي تلك الأثناء استدعتني إليها أختي الكبرى المقيمة في كسدوغو فذهبت وأقمت عندها، وصادف ذلك مجيء رجل فوتجلوني إلى كسدوغو لزيارة أخته المقيمة هناك وكان عازبا لست أدري هل قدم لرؤيتي للخطبة أم قدم لأمر آخر لست أدري ذلك، وكل ما أعرفه أنه طلب يدي من زوج أختي فلم يتردد هو وبقية أفراد أسرتي من قبول خطبته والغريب في الموضوع أنهم لم يستشيروني إطلاقا، لم أكن أعرف هذا الرجل قط ولم يكن هو أيضا يعرفني، وفي غضون أيام تم كل شيء بالعجالة العجيبة ورأيتني في بيته "بكمسار" وحبلت بعد شهور ، إن هذا الرجل الذي زفوني إليه سيء السلوك، خمار إلى حد لا يوصف،  يدخل الدار في ساعات متأخرة ثملا ويعتدي علي ظلما في غالب الأحيان ويضربني دونما سبب، ويهددني بالطرد شاتما إياي وأسرتي شتائم مقذعة، لقد شكوته كثيرا إلى أسرتي في كسدغو ولكن جوابهم لي دائما هو: اصبري وإلى متى سأظل أصبر مع رجل سكير ومعربد.؟؟؟ إنني بالصراحة نادمة على هذا الزواج الذي لم أحقب فيه إلا الدموع والإحباط إنني أدمع كل يوم دون أن أجد من ألوذ به، لو كانت أمي على قيد الحياة لما قبلت هذا الزواج ولكن لقد فات كل شيء خصوصا أنني قد أنجبت له الآن أربع أولاد، يضربني ويهينني ويسبني أمامهم، لقد تحولت علي تلك الوسامة نقمة كبيرة ساقتني إلى هذا البيت الذي ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله التعذيب النفسي، إنني أعيش الجحيم المطبق يا "سيكوبا" مطلقة نفسا قويا وقائلة: ألو، ألو، ألو هل تسمعني.؟؟
-أجل أسمعك جيدا
-يبدو أنني قد أطلت عليك الكلام الذي قد تعتبره تافها وغير مهم أليس كذلك.؟؟
-بالعكس يا عائشة بالعكس إنه مهم للغاية وإنني صاغ إليك باهتمام أيضا بل وإن قلبي يدمع معك اللحظة فتابعي إنني أتصل بك من خلال الانترنيت ولا يكلفني شيئا أنتْ واصلي فقط وإذا مللت من الكلام سوف أنسق معك موعدا آخرا.
-شكرا لك، إذن سأتابع أقص عليك ما فعل بي قومي والدهر معا، وإن مما يعذبني كثيرا هو أنه قد تزوج علي طالبة جامعية يعيرني ويتباهى بها علي لأنها متعلمة  وأما أنا فأمية وجاهلة وغير مثقفة كما يقول، إنني ألعن نفسي على عدم متابعة الدراسة، هي الآن الزوجة المفضلة لديه إن الرجال غدارون وخبثاء وماكرون ومستغلون وكذابون كذابون...
يقاطعها:
- ليس كل الرجال وهل أنا منهم.؟؟؟
- لا وألف لا حاشا أن تكون
-وهل تعتقدين أن كل النساء لاسيما بنات اليوم صالحات؟؟؟
-كلا
-إذن تحدثي عمن هو سبب مشكلتك ولا تعممي
-إذن أغير الكلام وشكرا على التصحيح
أقول إنني أعاني بلاء هذا الزواج المفروض علي، بالصراحة لم يكن زواجا وإنما بيعا، لأنهم لم ينظروا في صلاح الرجل وإنما في ثرائه الذي أسال لعابهم، لا تتصور مدى السرعة التي أنهى بها كل المراسيم وكأنه وجد سلعة نافدة في السوق يبحث عنها زمنا طويلا. فكنت تلك السلعة!!! إن قومنا يظلمون بناتهم كثيرا لأنهم يزفونهن صغيرات وبالإجبار أيضا، جسدي معه وروحي في مكان آخر، أحيانا أحيى وأحيانا أموت، أصلا إن روحي ميتة ، إنني ممتنة لك على كل ما فعلت لي ولأخي "ياغوبا" وأبوح لك بسر جلل يوقف أحيانا هذا الزوج السادي عند حده، ممثلا في كونه لما تزوجني وجدني ليلة الدخلة عذراء، فهذه هي الحسنة الوحيدة التي يعترف بها لي، لقد دخل بي وأنا بنت السادسة عشر من العمر وهو فوق الثلاثين من العمر، هذه فقط، فلو كنت أسأت إلي مثلا وحاشاك أن تفعل لكنت وصمة عار كبير على جبين قبيلتي تعلم أن الشرف في العادة الفوتجلونبة مهم جدا في الزفاف.
ويقاطعها من جديد:
-ما كنت فاعل ذلك بك قط لقد كنت بالرغم من يفاعة المراهقة شابا مسئولا وأنت تعرفين ذلك ولو كنت مسيئا عليك لما بحثت عني بعد هذه الأعوام كلها أليس كذلك.؟؟؟
-بلى
- عائشة إن الذي أغاظني كثيرا منك هو أنك قاطعتني بشكل مفاجئ وسافرت إلى كسدغو بدون أن تودعيني رامية بكل شيء أرضا
-صحيح ما قلت ولكن سبق أن اعتذرت إليك أم ما زلت مستاءا.؟؟
-أجل، لقد كان في نفسي حاجة إليك
-وما هي تلك الحاجة.؟؟
-كنت أود  الزواج بك ولكن كنت أنتظر حتى تكبري وتعي لكي لا يقال إن ما كنت أفعله لك إنما كان من أجل المقابل أو استغلالا لطفولتك

قاطعته بعنف مزمجرة:
-لماذا لم تفسح لأبي عن هذه الرغبة وأنت تعلم أنه كان يحترمك كثيرا، أنت إذن السبب لكل ما أعانيه، لقد كنت الرجل الأنسب لي فكم كنت أنتظر أن تقول شيئا ولكنك لم تفعل ولماذا يا "سيكوبا" .؟؟ لقد تعلقت بك حينما كنت طفلة وأؤكد لك على أنني ما زلت، وليس في استطاعتي أن أنساك فلو كان ذلك ممكنا لفعلت ولقد حاولت نسيانك بلا جدوى مجهشة بالبكاء الشديد المصحوب بالنفس القوي الذي يطنن في أذني المعلم.
يقاطعها متلاطفا:
-إن أهلي كانوا يقولون عنكم ما هو أكثر سمجة مما كان يقوله أهلك عنا
-صحيح
-بالطبع يا عائشة بالطبع، لقد عرضوا بالقوة أن أفكر في الزواج بك، أتعلمين أن الماننكا كثيرا ما يفضلون أن تكون الزوجة الأولى للولد البكر من الأسرة أو من الأقارب، لقد وجدت معارضة قوية حتى من بعض الأصدقاء، ولكن ذلك لم يغير شيئا من علاقتي بك أو بأسرتك، لقد داومت عليها إلى اللحظة التي حدث منك ما حدث، إن كلينا ضحية العقلية الإقليمية في هذه المدينة، إن الله خلقنا وجعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف، غير أن هذه العقلية تقوض كل العلاقات الإنسانية، فهذا يضمر السوء لهذا القوم والآخر يكره ذاك، إن أمثالنا ممن أصيبوا بمثل ما أصبنا أنا وإياك كثيرون في هذه المدينة، لقد بددوا أحلامنا وخربوا ما أردنا بناءه في المستقبل وهكذا يفعلون.
-ولكن قل لي ما الحل الآن؟؟؟
-الحل أن تعتني بأولادك وعسى الله أن يعيد زوجك إلى رشده يوما ما ويجعله يحسن عشرتك، وسأرسل إليك الهاتف المحمول والمال الذي طلبتْه مع الحاج جالو الموجود معنا هنا اليوم لتلقي العلاج
-وسيسرني ذلك وأنت اعتن أيضا بأولادك وزوجتك ولا تكن مثل زوجي
-أبدا إن شاء الله وعند ما أقدم للعطلة في أي عام سوف أزورك أنا وأولادي وزوجتي في مدينتكم لقد قصصت كل حكايتك على زوجتي وهي  الآن على علم بكل ما جرى بيني وبينك وهي أيضا متعاطفة معك
أصحيح أنك أخبرتها عني وأنكم ستزورنني يوما ما.؟؟
-أجل
-حسنا
-قولي لي:
وأين هي أختك خديجة.؟؟
-إنها في كسدغو
-وكيف حالها.؟؟
-هي ليست بخير .
-ولماذا.؟؟
-لقد أفلس زوجها وهو اليوم بباديته يزرع، وأما هي فمهملة بوحدها في كسدوغو إنها في الحقيقة تعاني أكثر مني ولست أدري ماذا فعلنا بالله حتى يفعل بنا كل هذا.
-لا تفكري هكذا، إن الأمور ستتغير يوما ما إن شاء الله
-آمل ذلك
-حاولي أن تزوديني برقم هاتفها لأتصل بها
-سأفعل ذلك
-وأنت يا سيكوبا أريد منك أن ترسل إليّ صورتك مع صورة أولادك، إنني متلهفة بنهم شديد لرؤيتك وإياهم، كم كنت أحلم أن نتزوج لنكون معا بيتا متواضعا ملؤه السعادة والحب المتبادل، ليس هناك ما هو أحلى من التزوج بمن تحبه ويحبك، إن الحياة الزوجية بلا حب متبادل جحيم لا يطاق، إنها كالطعام بلا مذاق. فكم أحن إليك، حتى إن الحنين يكاد يقتلني ويقتلني.! ويا ليت لي جناحين لعلي إليك أطير محلقا في سماء الحب، لست أدري ما أنا فاعلة اليوم يا سيكوبا.
   إنني أحن إليك وإلى مدينتنا، وإلى الغابة المقدسة التي اكتنفت مدرستنا بطبيعتها الخلابة، كم أنا تائهة في بحر خيالي الفياض بالهموم والغموم الثقال التي تقض مضجعي.؟؟؟!!! تلكم التي تكاد تُشيخني
    وإنني أقضي نهاري مهمومة وليلي آرقة دون أن يحس أحد بما أكابده في الصمت، وإلى من سألوذ.؟؟؟ إلى زوج خمار أم إلى الخيال الذي يؤزم مشكلتي.؟؟؟
    إي أَلاَ إنني أعاني بلاء هذا الزواج المفروض علي، آه، ما أجمل تلك الأيام وما أسعدها,!؟ وكلما تذكرتها بأحداثها المليئة بالسعادة إلا وازددت هياما بك، فأنت بطلها الذي لا يقاوم وصانعها المترسخ في ذاكرتي لا بغيبك عني الدهر أبدا، وإنني مدينة لك مدى الحياة، لقد أنقذت حياتي وبلسمت جرحي في الوقت الذي كان بإمكانك استغلالي وتدميري ولكنك لم تفعل، وكيف ستفعل وأنت الكريم السخي العطوف الحنون، صاحب الضمير الشريف جم الأدب ودمث الإنسانية الفياضة بالرحمة... ؟ وما أكثر هذه الأيام التي أعيشها شجنا وهموما،. إنها الأيام السود المشوبة بالأحزان الكثيرة.
وتتابع قائلة بصوت مختلج بالدموع:
-                      لقد مات أبي، ومن قبله أمي، وبعدهما بأعوام مات أخواي: بابايْ وإلياس.
-                      قاطعها متعجبا:
-                      مات بابايْ وإلياس؟!!!
-                      أجل، لقد ماتوا جميعا ولم يبق إلا أنا ويعقوب وخديجة وجاجا
-                      ومنذ مات؟
-منذ سنوات، توفي إلياس في مالي في ظروف غامضة ولم نعثر حتى على جثمانه، وأما بابايْ فكان مريضا جدا وظل طريح الفراش مدة إلى أن فارق الحياة، وأخوف ما أخافه هو الموت، نعم الموت، أخاف أن أموت هذه الأيام دون أن أراك، وإذا وقع ذلك، فإنني سأموت والحنين إليك منغرز في قلبي.!
 أثارت كلماتها الحزينة المعلم إذ صار حيرانا بين حقيقتها وخيالها، متسائلا عن هذا المصير الذي ساق القدر الفوتجلونية  إليه:
هل هو الذي لم يتقدم لطلب يدها أم تلك الأسرة التي أرغمتها على هذا الزواج أم هي ذاتها المسئولة عن كل شيء لانقطاعها عني وتواريها عن أنظاري، أم أنه عقوبة نكران صنيع المعروف.؟؟؟
لم يجد سيكوبا إلا أن يواسيها ويستصبرها لتحافظ على بيتها وأولادها، ولم يكن تقبل الأمر هينا عليها فودعها تاركا إياها غارقة في موج الدموع، إنها تدمع وتدمع حتى سمعها وهي تصرخ صرخة المستغيث:
وا سيكوبا، وا سيكوبا وا سيكوبا، باكية وباكية...
      إن التدين الذي يمتاز به المعلم جعله يغير رقم الهاتف ويغيب عنها بالأبد، مخبرا زملاءه بعدم تزويدها بأية معلومة تدلها عليه، مخافة أن يسقط في كيدهن العظيم، وأما هي فظلت تعاود الكرة والكرات دون أن تفلح، وتبحث عن أخباره هنا وهناك دون أن تجد له أثرا، وبالرغم من ذلك فإنها ما تظل ماسكة بالأمل الأهون من خيط العنكبوت مشرئبة إلى الطريق وهي تعد الأيام والأيام والأعوام الأعوام منتظرة قدومه في العطلة التي وعدها بها، وتجهل أنها حالمة بالسراب.!!!   


كلمة الراوي:
 تسرد هذه الرواية قصة تلميذة فوتاجلونية ولعت بمعلمها في مدرسة "الغابة المقدسة" في مدينة أنزريكوري، عاشقة إياه في الصمت بشكل جنوني، حالمة به رجل مستقبلها، بيد أن عوامل ذاتية وموضوعية قاهرة قزمت هذا الحلم وبددته بالمرة، حيث زًفت مكرهَة طبعا إلى رجل من قومها ولم يكن لها خيار المخالفة عن قرار القبيلة التي هددتها بلعناتها إن هي لم ترضخ، وهنا تعثر قدرها وسقطت في أخدود عميق  ظلت تصرخ فيه أعواما دون أن يسمع عويلَها أحد، إنه أخدود يتلظى بما لا يحس به إلا هي، نعم هي وحدها فقط ولا أحدا سواها.!!!
 تبكي زهرة حياتها التي أضاعها هذا الزوج الوبش السكير الطائش في حضن المومسات الليلية، لم تحقب معه إلا الأشجان والآلام، وتبكي موت الأم والإخوة الأشقاء، بل وتبكي فراقها عن المعلم الذي أحبته، وتبكي موت نفسها تارة وحياتها تارة أخرى، وتدردش مع نفسها وتخاطب الناس الموهومين، وإن عينيها لتفيضان يوميا بدموع تكاد تغمرها في بيتها الزوجي الذي بات يخنقها بفعل المعاناة النفسية التي تعيشها، وإن دنياها بها لضائقة ضائقة، وإنها لواحدة من جملة الفتيات الغينيات اللاتي هن ضحيات الزواج الأسري الإجباري الذي يبدد أحلامهن ويقوض مستقبلهن بل ويهدم حياتهن بالكامل.
ويحدوني الأمل الكبير أن تسفر هذه الرواية عن الأدب الواعي في المحيطيْن الأسري والشعبي حتى ينفض الناس أيديهم من ظاهرة العقلية الإقليمية التي باتت دملا يتقيح بشكل مهول في جسم الوطن والمواطنين. وإنها لداء الغينيين إلا من سلم ربه. وا وطناه، ووا مواطناه!!!
دكار 7/5/2008
جمهورية السنغال


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire