samedi 12 décembre 2015

القـدر العاثـر

القـدر العاثـر
(روايــة)
كونـاتي موسى عمـر 


الإهداء

إلى المظلوميْن:
الإيفواري كوناتي مَامَادُو، والمغربية هاجر حيون


الشكر
      أشكر أولئك الأنبال الذين يهتدون بفراستهم إلى مشاكل المظلومين ويسارعون إلى إسعافهم، لم يسدوا إلي معروفهم لأشكرهم، فهم من الذين يحسنون دون أن يريدوا به جزاء ولا شكورا، وكل ما يرجونه؛ هو نيل مرضاة الله، غير أن الواجب الإنساني وبالأحرى الديني يستوجب علي تقديم الشكر إليهم عملا بسنة المحسن الكبير عليه وآله السلام الدائم:" من أسدى إليكم معروفا فكافئؤه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا له بالخير".
ومن هذا المبدأ، أقدم جزيل الشكر لأشخاص مسحوا عن وجنتي تلك الدموع الساخنة في تعثر قدري مادين إلي اليد الرحيمة التي رفعت من معنويتي المحبطة فهم:
الكاتب والأديب المغربي الدكتور محمد أنقار، والدكتور توفيق الغلبزوري الذي منحني من الزكاة، والدكتور عبد المجيد حدوش ممن أعاني ماديا ومعنويا، والدكتور مصطفى أزريان، والأخ أحمد ديداي، والأخ زكريا الريسوني، والأستاذ عبد الواحد التهامي العلمي ممن خففوا عني هذا الويل.
وأشكر بالزيادة السي محمد وحُرته الشريفة هاجر حيون، وكافة أفراد أسرتهما الكريمة، على الخدمة الإنسانية قليلة النظير والتي قدماها لي، لقد تحملا مصاريف طباعة أطروحتي، بل وأهديا إلي كبش العيد مع أشياء أخرى ثمينة، وهي خدمة، سأظل مدينا بها مدى الحياة.
 وأشكر في الإطار ذاته الأخت الشريفة كريمة بوعلي على إنسانيتها وكرمها، ونبلها، سائلا الله لوالديْها العزيزين الغفران، موجها في هذه الأثناء خالص العرفان للأخ الكريم عاطف محمد الموظف ببلدية مدينة مرتيل وقد دلني على حانوتيٍ في الحومة أتزود من عنده كل ما أحتاج إليه من المواد الغذائية على نفقته، وداومت على ذلك عاما كاملا، إنه في الحقيقة عاطف، لقد عطف علي كثيرا فليعطف الله عليه وعلى والديه.
وبالغ الشكر موجه كذلك إلى كل من: المفتي جمال ذالك الشاب الرحيم الدمث الخلق، والسي يوسف الموظف في شركة أمانديس بمرتيل مشكور على وجبات الكسس، والسي مصطفى المصور في مرتيل ممن قطرت يده بالرحمة جعله الله من المصطفين الأخيار، والسي محمد الرملي مشكور على الحولي، لقد قبلني في أسرته وجعلني فردا منها، والسيدة منانة الصبان صاحبة العمارة التي سكنتها أعواما لن أنسى إحسانها أبدا لقد كانت عجوزا رحيمة بي، وجاري الحاج (شرطي) في زنقة الياسمين كان من الرحماء، ودعواتي الخالصة لجاري الطيب السي محمد عزيز-رحمه الله- الذي كان يتكفل إفطارنا في كل رمضان، جعل الله معروفه في ميزان حسناته. إنه الآن في دار الخلد التي لا ينفع فيها إلا العمل الصالح، ولن أنساه من صالح دعائي إن شاء الله. والسي علي الصاحب الرحيم أشكره وحُرته الشريفة لقد قدم لي الكثير والكثير.
ليس هناك ما هو أعز على الطالب في المغرب من منحته. فإنه يحرص عليها أكثر من حرصه على سواد عينيه. بيد أن ذلك لم يمنع البعض من تقديم يد العون إلي سرا. فهم من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. لذا، فالشكر العميق موصول إلى كل:
من الإخوة الماليين: جنيبو أنس على تلك الأظرفة التي بعث بها إلي أكثر من مرة، الزميلين والدكتور أحمد عمار ديكو، والدكتور عثمان حيدر.
ومن الإخوة السنغاليين: باه جبريل، وحسن سانه، وفاضل سيلا، وإبراهيم تيام، وأحمد خبان الطوباوي، وبارا سمبا، ولاندينغ باجي، والسرين محمد سوغو الواداني، والأخ شعيب تياو، ومرتضى بشير امباكي. ولا أنسى الأخوين الإيفواريين سيسي كامورو الذي جعل حاسوبه رهن إشارتي، والدكتور كوناتي أرنا الذي استضافني في شقته لزمن طويل وصبر علي مع كل تعقيداتي لقد جعلتني مشكلتي إنسانا معقدا وذا حساسية كبيرة.
 وأشكر من الغينيين: الأخ Koly guilavogui الذي كان يؤنسني في وحدتي القاتلة ويخفف عني حدة المعاناة النفسية.
وللجميع الشكر الجزيل وعميق العرفان



مقدمة
إن سيف القدر سابق على الإنسان، وهو مما لا راد له، ولهذا لا يكاد يرى في غالب الأحيان العود الذي يعميه، وهذا ما وقع لي فعلا حينما قادني قدري العاثر إلى ذلك الأستاذ المشرف يعتبر من أنذل الأساتذة المشرفين في مجال البحث العلمي بالمغرب ومن أكثرهم كذبا، ومن أخبثهم خلقا، ومن أقلهم إنسانية ومن أحطهم قيمة. غرتني شهرته؛ فسرت إليه بظلفي اللعين ويا ليتني لم أفعل، فظل يذيقني الأمرّين أعواما بلا هوادة. هتفت خلالها وانتحبت حتى كاد صوتي يضيع دون أن يرحم وهني وغربتي، في إشراف كله شجو مشوب بآلام كثيرة وأشجان أكثر، سنوات قضيتها في الندوب، والعويل، والبكاء المتواصل في صمت رهيب دون أن أجد من ألوذ به، في بلد؛ الحقوق فيه مهضومة.!!!
صنوف من معاناة لا يلئمها قول ولن يضمدها أيضا السكوت، وللتخلص من هذه الهموم الثقال التي ساءت حملا كبيرا في صدري، ارتأيت أن أبوح بها لهذه الصفحات؛ فكم من مرة حاولت فيها أن أخلص من التفكير فيها للأبد ولكنني لم أستطع.؟ ففي كل مرة أشعر بإحساس ملح يحفزني على التقيئ بها لأفرغ صدري من هذا الدمل المتقيح في جسدي، فكان لي إذن مندوحة إلا  أن أتسلى عن ذكراها بالتحدث عنها لعل هذا الحديث أن يخرجها من ضميري الخاص إلى الضمير العام فيكون في ذلك تخفيف لهذا الحمل الثقيل وتفريج لكربتي وترياق لجرحي الغائر وبلسم شاف لروح عانت كثيرا من عذاب جبار عنيد حَوّل شعبته إلى جحيم يلقي فيه الطلاب الباحثين أجانبا ومغاربة بلا رحمة.!!! إن الهموم الثقال لتخف إذا شاركت في حملها ضمائر كثيرة.
فها أنا ذا أخرج عن سكوتي بعد مضي أعوام طوال على نجاتي من أنياب أخطبوط تطوان الأعظم لأبوح بالسر المكنون في صدري زمنا طويلا، وأعتقد أنه من غير المنطق بتاتا أن نعاتب إنسانا ظل على مدى سنوات يحترق في النار الموقدة ويسام سوء العذاب ويكوى بلا رحمة إن أطلق صرخات مزعجة وشاكية، وعلينا أن ندرك أن الحطّاب الذي دأب على رمي الأحطاب في النار وداوم على ذلك عقدا كاملا من الزمن، أن تنزلق قدماه يوما من الأيام فيسقط في بئره المعطلة ويحترق، إن الظلم لا تعود عقباه أبدا إلا على الندم.
واليوم؛ سأرفع عقيرتي ليعلم بها الناس ولأميط القناع عن الوجه الحقيقي لهذا الدكتور المعدود من الدكاترة الظلاميين بالمغرب وأنفض عنه كما ينفض المدخن رماد سيجارته في المطفأة. إنه مرب ينطل عليه الحديث الشريف:" آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان". وإنني آمل أن تسفر هذه الصفحات الشاكية عن أدب لا يجتر ولا يقاوم، وأن تسهم في الحد من ظاهرة تعد غير علمية وحضارية في المجال الإشرافي بالمغرب. إنها ظاهرة الظلم والسادية.
مرتيل: الجمعة المباركة:22/12/2006م
الموافق:1/من شهر ذي الحجة/1427
المغرب


(1)
       في أواخر عام 1999م رحلت عن المملكة العربية السعودية، متجها صوب المملكة المغربية، وحللت بمدينة تطوان العجيبة، قاصدا صباحا كلية أصول الدين متسجلا في شعبة العقائد والفلسفة، وقضيت بها عامين دراسيين، وجدت خلالهما من كافة أطرها عميدا وموظفين كل المعاملة الطيبة، حاصلا منهم على حقوقي الطلابية المتعلقة مثلا بالإجراءات الإدارية بلا عناء ولا مشقة؛ فعميد الكلية الدكتور إدريس خليفة، يمثل للطلبة الأجانب أبا عطوفا ويتفهم ظروف غربتهم غاية التفهم، والمكلفة بملفاتنا السيدة نزيهة بمثابة الأم لحنانها الفياض، وسأكون في منتهى الجحود إن لم أذكر الآنسة الشريفة وبنت الشرفاء، الأخت نعيمة حيون كاتبة السيد العميد الموقر، إنها تؤدي لنا خدمات إنسانية مقدرة، إنهم جميعا أناس في غاية الطيبوبة والدماثة، وفي هذه الرحاب المترعة بالإنسانية المنهمرة، نسجت بيني وبين بعض الطلبة والطالبات المغاربة خيوط علاقات إنسانية متينة الأسس، نبيلة الهدف والغاية، حيث قضيت بأصول الدين أزهى الفترات الدراسية، في جو مفعم بالاحترام المتبادل والتقدير الملائم.
حصلت في عام 2002 على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في العقائد والفلسفة. وظللنا أنا وأصحابي الطلاب من الشعبة ذاتها ننتظر أن تفتح الكلية باب التسجيل في سلك الدكتوراه، وكانت رغبتنا أن نبقى فيها ولا نفارقها لأننا قد ألفناها وألفتنا، فالناس فيها إنسانيون ونبلاء، بيد أننا توصلنا في الأخير بخبر مفاده أن الكلية لن تفتح في ذلك العام وحدة للدكتوراه إلى أجل غير مسمى، خبر صادم بخرّ كل الآمال، فتحتم علي البحث عن فضاء آخر؛ ففارقت كليتي المفضلة بقلب متحسر  وأنا أضطرم حزنا على هذا الفراق الأليم الذي كابدت لوعته في صمت مطبق؛ لاعنا كثيرا حظي العاثر، غير أن ذكرياتها الخالدة ظلت في متحفي مقترنة بمحبة أبدية لن يطمر أغوارها تلاحق الأزمان وتعاقب الدهور. لقد عشقت هذه الكلية وعشقتني، متعلقا بوجدانها قبل جدرانها، ولسوف أذكرها، وسأظل أيضا أذكرها وأذكرها، معيدا ذكراها ومكررا إياها في مداد صفحاتي ما دامت روحي تنبض، مستأنسا بذكرياتها العابقة بالإنسانية ومتسليا بها، إن حبها لمستكين في أعماقي؛ فلو أني لاقيت منها غير ما أروي، لحكيت ذلك دون أن أجزع في حكايته أو أن أفزع في تحبيره.
إن التسجيل بسلك الدكتوراه حلم يطمح إليه حملة دبلوم الدراسات العليا المعمقة من كل التخصصات. بيد أن مجال الإشراف على البحوث التي يقدمها الباحثون في هذا السلك يشهد ممارسات بعيدة كل البعد عن روح البحث العلمي، ممثلة في ظاهرة التماطل المصحوب بالتعسف الذي يتعرض له هؤلاء الباحثون على أيدي أساتذة هم أقرب إلى الساديين منه إلى المشرفين، وكانت هناك إشاعات أخافتني جدا، وتتعلق بسلوك بعض الأساتذة المشرفين وتصرفاتهم السيئة مع الطلبة لاسيما الباحثين منهم. إذ سمعت أصدقائي المغاربة ينصحون باختيار المشرف المسئول الذي يمتاز بالضمير المهني، وتحدثوا كثيرا عن دكاترة يقولون إنهم دماث الأخلاق مشهود لهم بالعلم والجدية. وإنهم يقدرون المسئولية العلمية الجسيمة المنوطة بهم. وإنهم قوم إذا ما أخذوا على عواتقهم أمانة الإشراف يأخذونها على محمل الجد، وإذا وعدوا خلاله وفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإنهم يتفانون في خدمة الطالب وتوجيهه وإرشاده جاعلين أنفسهم رهن إشارته، متخذين منه صديقا، وأخا، وابنا، وذكروا لي بعضا من هؤلاء الأنبال عبر الكليات المغربية يتناقل الطلبة الباحثون أخبارهم الطيبة ويثنون عليهم بالخير، وتحدثوا عن نبلهم، وكرمهم، وطيبوبتهم، وجديتهم، حتى تمنيت التعرف إليهم والالتقاء بهم.
وسمعتهم أيضا يتكلمون عن آخرين نعتوهم بكل النعوت السمجة. فأسموهم تارة بـ"وُلاَدِ الحرام"، وبـ"المسخوط" و"الكداب" تارة أخرى، وتردد على مسامعي في المجامع الطلابية أسماء أساتذة لاكتهم الألسن كثيرا وقذفتهم بالشتائم المقذعة؛ فهم ممن يعتبرهم الباحثون غير صالحين لخدمة البحث العلمي؛ فتكلموا عن أكاذيبهم وسوء سلوكهم، وعدم مسئوليتهم حتى تمنيت أن لا ألقاهم قط في هذه الرحلة العلمية التي أنا مقبل عليها، إنها حكايات وأخبار أرهبتني وجعلتني أتريث حتى لا أسقط في الفخ. ولكن؛ هل تنفع الحيطة مع القدر.؟؟؟
بدأنا في البحث عن التسجيل، وذهبت ذات يوم إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية في مرتيل بمعية طلبة وطالبات مغاربة تجمعنا الغاية ذاتها، وللمرة الأولى لي ولجت فيها هذه المؤسسة، واهتدينا بعد بحث حثيث إلى وجود التسجيل في سلك الدكتوراه بوحدات متعددة، والمسئولة عن مصلحة هذا السلك، سيدة نحيفة وطويلة القامة، لحظتها باهتمام بالغ؛ فوجدتها من خلال كلامها مع الناس إنسانة شرسة وعنيفة، لقد كادت أن تتساجل معنا. إنها متعالية وتتكلم بالثقة المتناهية وكأنها هي العميدة، أخذنا المعلومات وانصرفنا ونحن نلوك اسمها في الطريق. إن الطلبة لا يذكرونها بخير.
غدوت إلى الكلية في اليوم الموالي وتوجهت صوب قاعة الأساتذة وأنا أبحث عن رئيس الوحدة التي أود التسجيل بها، وقفت على الباب طارقا:
-طَقْ، طَقْ، طَقْ أجابني مجيب من الداخل:
-زِدْ
ولما دخلت عليه وجدته رجلا قصير وبدين القامة متكئا على الحائط ويداه غائصتان في جيبيْ سرواله لابسا سترة سوداء وتحتها قميص أبيض بلا رباط عنق، وعلى وجهه نظارة كبيرة تشبه نظارة البطل الهندي المهاتما غاندي، تصافحنا ثم سألته:
-اسمح لي يا أستاذ، إنني أبحث عن الدكتور عبد العزيز شهبر رئيس وحدة تاريخ الأديان والحضارات الشرقية.
قطب في مكانه وسألني محدجا إياي بنظرات:
- وماذا تريد منه؟
-أرغب في التسجيل بوحدته في سلك الدكتوراه
-أأنت حاصل على دبلوم الدراسة العليا المعمقة.؟
-أجل
-ومن أين حصلت عليها.؟
-من كلية أصول الدين.
ولاذ بالصمت هنيهة ووقف رافعا بصره إلى السماء ثم قال:
-أنت من أي بلاد.؟
-من غينيا
-حسنا
دنا من الطاولة وكأن ذكر غينيا أثار لديه شيئا ما فسألني مجددا:
-يوجد في الجامعة الإسلامية بماليزيا غيني اسمه، اسمه...
وبدا لي أن اسم الغيني الذي يسألني عنه قد غاب عن ذاكرته فقلت له:
-أتقصد الدكتور قطب مصطفى سانو.؟
ضرب جبينه لائما نسيانه وقال:
-أجل، هو ذاك، إنه صديقي، أتعرفه.؟
-أجل.
وأضاف:
-إنه حفّاظ.
وقفت دون أن أعلق.
قدمت له مقترحات من موضوعات أنوي البحث فيها، أخذ مني الورقة وقلّبها في يده يمنة ويسرة، ووافق على هذا الموضوع:الإسلام والمسلمون بغينيا(الواقع والآفاق) طالبا مني إعداد تقرير موجز عنه في أقرب الآجال.
عدت إليه بعد أيام مقدما له التقرير فحرر لي خطيا موافقة مبدئية في انتظار استكمال الإجراءات الإدارية بكل من الوكالة المغربية للتعاون الدولي ووزارة التعليم العالي بالرباط، واشترط علي إنجاز البحث في غضون سنة ونصف؛ فقبلت شرطه ومضيت إلى الرباط لاستكمال المسطرة المتبقية. وبعد مدة غير قصيرة ذرعت خلالها الأزقة بين الوكالة وبين دهاليز الوزارة، رجعت إلى تطوان محبورا حاملا رخصة التسجيل التي طال انتظارها، متوجها توا إلى الكلية طالبا منه عقد جلسة نتوسم خلالها طريقة العمل ولكنه لم يستجب وإنما قال:
-لا داعي لذلك المهم أن تبدأ في عملك، ولدي كتب تهمك سوف أزودك بها لتستعين بها Ok
Ok-  يا دكتور
وخلال العام الأول، كثفت الجهود باذلا كل طاقاتي المادية والمعنوية؛ ويمدني الحماس المتقد في داخلي بالنشاط والحيوية ويحفزني للمضي قدما في العمل حاثا إياي على إتمامه في أسرع وقت ممكن، متسابقا بلا ملل ولا كلل مع الزمن لعلي أنجز عملي في غضون الفترة التي حددها سعادته، عاكفا على العمل مشمرا عن سواعد الجد مُحِطاً الرحال في المكتبات العامة والخاصة هنا وهناك متخذا من الكتب ذات الصلة بموضوع بحثي الجليس والأنيس؛ مساكنا إياها في تلك الوحدة القاتلة؛ فما أجمل صحبتها.' وما أقبح صحبة العديد من بني آدم.'؟
وضعتُ سعادته في هذه المرحلة الأولى من العمل في أليق مستويات الاحترام والوقار وفي أعلى المنازل رافعا إياه إلى مصاف خدمة العلم الكبار ممن يكرسون حياتهم من أجل البحث العلمي ويتفانون في خدمة طلبته حاسبا إياه من المفكرين المستنيرين ومن خدمة تاريخ الأديان بل ومن رواد الحضارة ودعاة الحوار والتعايش والحجاج وهكذا فعلت...
 غير أن الموازين لم تنقلب إلا بعد ما شرعت في العمل، حيث كنت لا أجده حينما أحتاج إليه مع أنه يدري تماما أنني باحث حديث العهد بمجال البحث العلمي، فأحوج ما يحتاج إليه الطالب الباحث مثلي في هذه المرحلة هو التوجيه والإرشاد؛ وكنت إذا اتصلت بسعادته لمناقشة قضية ما فيعدني بالمجيء دون أن يجيء، وإنما يأمرني بالاتصال لاحقا ثم يقفل الهاتف، ومضت الأيام والشهور، وأتت السنون دون أن أحظى منه بلقاء واحد.!
 احترت في أمري وحكيت تصرفاته لبعض أصدقاء أشرف عليهم فأفادوني بأن سعادته يتوفر في المجال الإشرافي على ملف غير نظيف، وأنه من أكابر الكذابين في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ولم ألتق خلال تحرياتي عنه بطالب يعرفه إلا وهو يمقته ويلعنه بأكبر اللعنات، فأدركت أن الأيام تبدي للمرء ما كان جاهلا وأنها تأتيه بأخبار لم يكن يعرفها.!!! لقد وقع الفأس في رأسي يا إلهي.!!!!!
لم يكن لي به سابق معرفة، لقد سمعت عنه مرة فقط عام 2000 خلال نقاش بين بعض أصدقائي المغاربة، وكنت يومه معزوما إلى وجبة الكسكس، جلسنا على المائدة، وكانت أحاديث متقطعة تتخلل الأكل، وكانت أشبه ما يكون بحديث ذو شجون، ومعلوم أن الطلبة كلما اجتمعوا إلا وتحدثوا عن الأساتذة؛ فيذكرون بعضهم بالخير ويثنون عليهم، بينما يلعنون البعض الآخر ويطفون عليهم، ولاكوا كثيرا اسم دكتور متحدثين عن تغيبه عن الحصص وعن أكاذيبه ومخالفته المواعيد.
فسألني أحدهم عن ذلك الأستاذ:
- أتعرفه السي موسى.؟
      -لا
وأجابني  مستغربا:
-كيف لا تعرفه وهو مشهور جدا في كلية الآداب.؟ رجل يعامل الطلبة معاملة طيبة.
قاطعه آخر وقال بصوت متنمر:
-ولكنه كيكدب بالزاف صحبي
جلست على المائدة وأنا أتابع الحوار صاغيا للنقاش باهتمام بالغ، وأثارني كثيرا هذا الكذب الشائع عن هذا الدكتور في الأوساط الطلابية، الأقدار تتعثر أحيانا وتسوق إلى المشانق، وتعثر قدري ساقني سوقا إلى هذا المخلوق الذي لا يحكي عنه الطلبة إلا الأشجان؛ فوجدته كما سمعت عنه، رجل يعطي حلو الحديث ثم يراوغ كما يراوغ الثعلب'. إن شخصيته موبوءة في وسطها المهني، فلن أكون مبالغا أبدا إن قلت إنني مهما استخدمت كل العبارات النابية لوصف سلوكه ما استطعت أبدا أن أستوفيه حقه من الوصف، إن كل الخصال الموبوءة متوافرة فيه. رجل تقطر لسانه عسلا، وقلبه سُما زُعافا، وسلوكه خبثا وبذاءة؛ متورط حتى نخاعه في إلغاء بحوث بعض الطلبة ظلما وعدوانا لأسباب هي ذاتية أكثر منها علمية، إنه دكتور لا يركض في مجال الإشراف إلا خلف الشهرة على ظهر وربما على جماجم عباد الله المساكين، وأصبح بعد ما علمت سلوكه من أكره خلق الله إلي، وصرت لأكرهه بكره كل الكارهين، وأمقته بمقت كل الماقتين، وأبصق عليه ببصاق كل الباصقين، وإن كل ذرة من فمه ليقطر كذبا. ولقد داس هذا الذي تفتخر به الدراسات الإسلامية بجامعة عبد المالك السعدي بمرتيل -وا ندامتاه على- كل القيم كما تداس أعقاب السجائر في عرض الطريق، ذو شخصية منبوذة باهت الحضور وفاقد الهيبة وذليل الجانب، إنه من حُثالة الدكاترة.'
وحفزني عدم استحقاقه مهمة الإشراف على الركوب على حبال هذه المغامرة لرفع القناع عن وجهه الحقيقي لأن السكوت عن غير مسئوليته لن يزيده إلا تماديا واستمرارا، وسأكون رعديدا كبيرا إن استسلمت للصمت عن هذا الذي يتخذ من الإشراف طريقا سيارا لتحقيق مصالحه الشخصية راكضا في ذلك خلف الشهرة وتثقيل ملفه العلمي على ظهر من يشرف عليهم، وحتى لا يتقيح الموبوء ويصير دمّلا يستعصي فقؤه على المدى البعيد ولا تشري عدواه فتصيب طلبة آخرين بجهالة، لأنه كسحابة ملوثة تنذر بالإمطار في كل لحظة، وبما أنني مجرد طالب لا أملك من وسائل للإنذار المبكر إلا وسيلة الكتابة قصد تنبيه الطلاب الباحثين إلى ما في إشراف هذا المتملق من تعذيب، وبما أنني  أيضا لا أستطيع مثلا أن أنتفخ أكثر من حجي كما يفعل الضفدع كلما أراد أن يوهم الناس بقدرته المزعومة، غير أن ما أستطيعه، هو أن أروي هذه الرواية لأصحاب الضمائر الحية لا لأرباب المزايدات. فذلك هو سلاحي وقوتي، وأشهد من خلال ما أروي ونار الاستنكار المشتعلة في أعماقي تجعلني أجمع للشهادة دون حساب أو تقدير لما سيسفر عنه الغد من عواقب، إيمانا مني بأن الشهادة برهان، وإذا تكاثرت البراهين تساقطت الأقنعة عن وجوه الساديين كتساقط أوراق التوت في الخريف وتنامى الوعي بالخطر المحدق بالبحث العلمي في المغرب عموما وفي جامعة عبد المالك السعدي بمرتيل خصوصا وتحفز المسئولون هناك لوقف الشهبريين الظلاميين عند حدهم.
       لقد فكرت مليا قبل أن أركب على هذه الحبال المترنحة، وظلت فكرة الركوب عليها تراودني وتلاحقني فترة طويلة، حيث تأتي ثم تروح دون أن أجد قوة لاستجماعها، إن التوجس ساورني وهيمن علي حتى كدت أصير أسْراه، ولكن لما ضاق صدري ذرعا بهذه الهموم الثقال وأصبح ضميري يؤنبني على السكوت، سرعان ما تجمعت الخواطر بوحيٍ من هذه المعاناة وتلك الهموم ومدتني بجرأة لا تلين وبإرادة لا تنكسر أمام سطوة الأسماء وشهرة المشرفين الطغاة وحررتني من قيود الخوف.
 لهذا أخذت قلمي وكتبت، غير أنني أحسست حينما خُطت أولى العبارات بذعر تصاعد دما حارا في وجنتي وخفق قلبي بقوة، وشعرت وكأن أن أحدا من جواسيس سعادته يتلصص على ما أخطه ويحاول أن ينقل إليه أخباري فتقع الفأس على رأسي، إنني مهووس فكريا ونفسيا.
 ولكن التوجس سرعان ما ذاب أمام قوة العزيمة المتقدة في داخلي ذوبان الجليد تحت أشعة الشمس اللافحة، فقهرتني الهموم وجعلتني أستمر في الكتابة، ورأيتني كلما أخط سطرا أزداد حماسة على حماسة فأخط في ثوان معدودة سطورا وسطورا؛ فإذا بأفكار نسجتها المعاناة تتكور ثم تتساقط علي دون توقف حتى كدت أغرق في أمواجها المتلاطمة كالبحار الهائجة. فخطت واستمررت أخط حتى اختلطت خطوطي بدموع منهمرة على وجنتي بللت صدر قميصي وأوراقي، إن الكلمات عن معاناتي معه لا تكاد تنفد، والصفحات الموضوعة أمامي لا تكاد هي الأخرى تكفي لتحبيرها، وأنى لها أن تكفي وقد قضيت في هذا الإشراف الظلامي أعواما كابدت خلالها في الصمت المطبق كل المعاناة دون أن يتفطن أحد لما أكابد، وكنت أحسب أيامي مع هذا النذل بالكيفية التي يحسب بها السجين أيامه على جدران زنزانته، بيد أن حال هذا الأخير كان أحسن من حالي لكون مدة حكمه معلومة ومحددة، وأما أنا؛ فظللت سنوات وسنوات مسجونا في زنزانة التماطل في انتظار إعداد محضر يقول لي سعادته كلما أطلق المواويل الشاكية:
-سننظر في أمرك بعد خمسة عشر يوما.!
وهكذا قضيت زهرة عمري وريعان شبابي في هذه الزنزانة الظلامية التي أحكم سجّاني سعادة المغضوب عليه إغلاقها بكل ما أوتي من سلطة ونفوذ دون أن تحرك إدارة السجن الكلية- حيال صرخاتي ساكنا.'
ولما لم أجد ما يلئم جرحي النازف ويراهم نفسيتي المنكسرة ويضمدها، لُذْتُ بهذه الصفحات لأبوح لها بسر مكنون في صدري وأحكي لها أشجاني وآلامي، إنها الفضاء المناسب لسرد حكايات المظلومين. فكم من مظلوم ومضطهد باح لها بأسراره قبلي.؟
إنني لا أكتب حبا في الكتابة وإنما لأبوح بمعاناة ثقلت صدري وقد ساءت حملا. فلا بد إذن أن أكتب ما عانيت لوعته لأنني مقهور والقهر يدفعني، وما كان لي إلا أن أكتب لأفرغ صدري من هذه النفايات القذرة ولأريح نفسي المحبطة إلى الحضيض في هذه الرحلة الظلامية التي لم أحقب خلالها غير العويل، والحسرة، والندوب والاستحقار.'
       وأكيد أن المناصرين لسعادة السادي لن يروق لهم ما حبرته، ولا شك في أنهم سينهالون علي بلا هوادة، وسينعتونني بكل النعوت، وربما سيصفونني بـ"نكّار الخير"، ولن أكون في نظرهم إلا كمن ألقى قذرا في بئرٍ شرب زلالها، وهذا في نظري طبيعي، لأن كل فتاة بأبيها معجبة، وقد قيل: إن الأعور ملك في بلاد العميان.
غير أنه ينبغي أن يُعلم أنني لا أكتب تزلفا لأحد أو إغضابا لآخر بقدر ما أروم إرضاء نفسي والتخفيف عنها؛ فمن لا يروق له ما دوّنت من هؤلاء وأولئك فليموتوا بغيظهم، وما يهمني، هو أن أقول كلمتي التي ستعرف حتما طريقها، وما كان لي إلا أن أقولها قبل أن أموت وهي مضمرة في صدري؛ فلا يهمني البتة إن تذمر منها هؤلاء أو تبجح بها أولئك.
 بيد أن ما سيؤسفني أشد ما يكون الأسف بل وسيحزنني أشد ما يكون الحزن، هو ألا تصل رسالتي إلى من أقصد، فأنا أخاطب قصاد الحق لا أرباب المصالح والمزايدة، أصحابَ الضمائر الحية، لا منعدمي الحس والقيم، ولقد انشرحت أساريري حينما أفرغت هذه الجرعات المريرة التي لم تقبلها أحشائي. فلست نادما أبدا وأبدا على ما أقدمت عليه، وحسبي إيماني بما رويت، وبضرورة أن أروي ما رويت، والخطر وكل الخطر أن أظل واجما عن رواية ما عانيت'. إنه إشراف مشوب بالسادية والصلف، والأكاذيب، وسوء السلوك، وعدم المسئولية...!!!!!!!!!!!!!!
xxxxxx

 (2)
ليس مؤهلا علميا للإشراف على الأطاريح الجامعية، وا أسفاه حينما جعل هذا المزجى البضاعة العلمية من خدمة البحث العلمي، هذا الذي يتخذ من نوادي الانترنيت بيوتا يعتكف فيها، ومجلسا يرابط فيه ساعات وساعات، إذا كانت الإنسانية قد استبشرت بهذه الشبكة التكنولوجية العجيبة التي حولت العالم إلى قرية واحدة تتواصل ساكنتها في رمشة العين، فإن استبشار سعادته بها لا مدى له ولا حدود، وفرحته بها تفوق كل التصورات، إذ يقضي في النوادي التطوانية سحابة أوقاته بالإبحار على متن المواقع للاستقاء من عرق جبين الآخرين- البحوث- وتشكل هذه الشبكة بالنسبة إليه كل المرجعية، وإذا سأله طالب من طلبته الباحثين أو حتى في السلك العادي عن قضية من القضايا العلمية، فلا يتردد لحظة في أن يوجهه إلى مواقع يحفظ منها عن ظهر القلب العدد العديد:
-اذهب إلى الموقع كذا وكذا...
فـ Google هو مكتبته المفضلة مما جعل طلبته بوحدة المناظرات الدينية التي هو رئيسها يقولون عنه تهكما:
-من لا شيخ له فالانترنيت شيخه'.
وما أن سمعت ذلك في إحدى المجامع حتى نسيت لحظة همومي منفجرا ضحكا بملء رئتي، وتصبح هذه المواقع نهره الذي يرد إليه كل حين ويغترف منه بين الحين والحين، لقد تحملته من عام   2002 إلى 2008 على مضض كبير، وعاملني خلال هذه الفترة كلها بالسادية المتناهية، سائما إياي سوء عذاب الإشراف، فتارة يدسني بظلفه وتارة أخرى ينطحني بقرنه الناتئ.'
ندمت على اتخاذه مشرفا وتحسرت في وقت لم تكن الندامة ولا الحسرة لتنفعا، وأعترف بأن اختياري له كان خطئا كبيرا، وغلطة عظيمة أسجلها ضمن أخطاء جسام اقترفتها في حق نفسي في حياتي، لقد تسرعت في هذا الاختيار بطريقة متهورة دفعت ثمنه باهظا وباهظا جدا جدا. إن إقبالي على هذا الجرو الشرس بهذه العجالة التي لم أترك لنفسي فيها مجالا للاستفسار عن حقيقته، كان كمن يعض على طعم فيه صنارة دون أن يدري.!!! فها أنا أعض على أصابعي حسرة وندامة حتى إنني أكاد أبلعها!. فلو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما وقع لي ما وقع، ولكنه قدري العاثر ومكاتبي؛ فمن يلام على تعثر حظوظه في الحياة.؟؟؟
في المقاهي التطوانية التي كنت أختلف إلى بعضها أيام العطل الأسبوعية لملاقاة أصدقائي الدكاترة ممن سبق أن أشرف عليهم اللعين، وما أن أثير مشكلتي معهم حتى أسمع الألسن تقذفه بالشتائم المقذعة:
-هدا الرجل مشي مشرف، هو وُلد الحرام وصافي، كداب بالزاف، ما عملاش في أطروحة ديالي والو، اصبار السي موسى، اصبار، هدا الرجل والو، مشي معك وحدك كيدور هدا التصرف ولكن مع الطلبة كاملين...
غرتني شهرته؛ فذهبت دون أن أفطن أنني سائر بظلفي إلى تعذيبي إلى دكتور لا يتغذى إلا بالكذب، ذي وجهين متناقضين، وظهر لي في الوهلة الأولى بكلمات ملساء كملك كريم، ولكن ما أن خالطته زمنا يسيرا حتى انكشف لي خبثه، إنه أفعى سامة يلدغ بضرس ثم يلحس بلسان، ومع المدة؛ أصبحت أكرهه أشد ما يكون الكره ماقتا إياه أشد ما يكون المقت، متقززا منه كتقززي من جيفة مرمية في عرض الطريق أشد أنفي من رائحته النتنة نائيا منها بجانبي وملويا برأسي تفاديا لها، فكم تمنيت أن أرى أسته لأبصق وأتمخط وأتنخع فيه.
       ومضت الأعوام مر السحاب و"حليمة تطوان باقية على عادتها السيئة"، وصرت خلال ذلك أحوج إلى السفر إلى غينيا لجمع المادة العلمية المتعلقة بالشق الميداني لبحثي، ولكي أتمكن من سحب منحتي مسبقا من تلك الوكالة الجهنمية التي لا فرق بينها في التعذيب النفسي وبين هذا المسخوط؛ فكان لا بد لي من الإدلاء من طرفه بإفادة إلى هذه الوكالة، ولقد كان ذلك مسيرة طويلة وشاقة علي.
اتصلت به هاتفيا مرات ومرات طالبا منه هذه الورقة التي لا تتجاوز كلماتها سطورا قليلة حتى كادت كثرة الاتصال تفرغ جيبي من دريهماتي، وفي كل مرة يعدني باللقاء فأذهب ولا ألقاه، وما أن ألقاه أيضا حتى يعتذر مسقطا علي وابلا من أعذار تحول بينه وبين إيجاد الفرصة لكتابة كليمات لا يتحقق سفري إلا بها، وفي الوقت الذي بلغت فيه نفسي حنجري من شدة التماطل، تلقيت من عائلتي مكالمات هاتفية متتالية أربكتني نفسيا، وتعلقت بمرض ابني عيسى المولود في غيابي، وكنت إليه لمن التواقين جدا جدا، وإن الحنين إليه وإلى أخيه عمر كاد يقتلني ويقتلني، حبا حتى كاد يمشي، وسرعان ما مرض أياما معدودات تدهورت خلالها حالته الصحية وساءت، في وقت أنا أضطرم على جمرة الحنين منتظرا أن يفكّ سجاني أسري لأعود إلى أحضان أسرتي التي فارقتها منذ سنوات.
وفي ذات يوم؛ إذ أنا في الحافلة من الرباط إلى تطوان؛ فإذا بي يُنعى إلي عبر اتصال هاتفي من بلاد كوت ديفوار حيث يرافق أمه في زيارة عائلية نبأ وفاته، كرهت ساعته التليفون حتى كدت أرمي به من نويفذة الحافلة، كان الخبر صادما، ومربكا، بل ومحطما... أنا هنا مع أستاذي المشرف وبالأحرى معذبي أعاني وأعاني، ويأتيني نبأ آخر ليزيد طيني بلة؛ فلم أجد إلا أن ألوذ في الحافلة بوجوم طويل مائجا في بحار من الهواجس المضطربة متلاطما في لججها كسيارات مدينة بلا إشارات المرور، أو كقشة طافية تجرها السيول يمنة ويسرة، جلست فيها بين الركاب منغمسا في عمق أحزاني، فحيناً أصحو فجأة كالمذعور، وسرعان ما أغفو حينا وحينا فأراني متحلقا في عالم الحزن والهموم وأنا أغمغم بوحدي، وما أن أصحو حتى أتمنى أن تتحول الحافلة إلى طائرة تحلق بي توا إلى كوت ديفوار لأرى جثمانه الصغير قبل أن يوارى الثرى، مات تاركا حنينه شوكة كبيرة منغرزة في قلبي.'
       وبذلك يمر بي موكب السعادة والفرحة والسرور جانبا ويرسل إلي بدلا عنه صنوفا من الأحزان الجسام والهموم الثقال المشوبة بكل الآلام، وتجعل الأقدارُ الأشجانَ حكرةً عليّ، إذ تلقيت بعد شهور على رحيل ابني عيسى خبرا أكثر إرباكا وتحطيما، وتعلق هذه المرة بوالدي العزيز، ظل المسكين يصارع مرض السل الخبيث صراعا مريرا حتى تمكن منه وأضعفه جاعلا إياه طريح الفراش شهورا وشهورا حتى خابت معه كل الآمال، ُنقل من أنزريكوري إلى مستشفى "دُوْنْكَا" بالعاصمة كوناكري، وفي ذات صباح باكر، نهضت على رنات هاتفية متواصلة على غير العادة، رفعت السماعة برعدة كبيرة وقلبي يدق في الشغاف، ويدي ترتجف وترتجف كالمصاب بالزهايمر، فقلت وقلبي قد بلغ حنجري:
      -ألو
      أجابني المتصل وفي صوته اختلاجة:
-أنا "كَالُوبَا"، لقد مات الوالد هذا الصباح ونحن الآن بصدد الإجراءات لترحيل جثمانه إلى أنزريكوري...         
       جلست على حافة سريري مذهولا من هول الصدمة والدنيا أمامي مسودة ودموع غزيرة فاضت من عينيْ وانهمرت على صدري انهمار الأمطار في الوديان. فضاقت بي حجرتي والدنيا معا، كرهت الحياة وكل شيء فيها، مات في وقت أنا فيه فاقد المنحة وغير قادر حتى على الاتصال بالعائلة؛ فتمنيت أن أطير إلى بلدي في الحال محلقا فوق الجبال والقمم مخترقا الآفاق على شاكلة الطيور لأبلغ كوناكري ولأقبّل جثمانه قُبلة حارة وأعانقه عناقا ملتاعا، ملتاعا، ملتاعا... قبل أن يوارى الثرى.' فما أجمل الطير حينما تطير في الآفاق إلى حيث تشاء وتصف في جو السماء صافات.'
       بكيت موت أبي، ومن قبله؛ على ابني عيسى بكاء شديدا دون أن يتفطن أحد لعمق معاناتي، ولم يُعزني إلا دفاتري التي أبوح لها بأشجاني، إنني لم أره منذ سنوات، وله علي كثير من حقوق الأبوة، وها هو يرحل عني إلى الأبد وأَسْوِجَة الغربة تفصلنا عن بعضنا البعض وتمنعني حتى عن حضور جنازته، وأزّم معاناتي تجاهل سعادة السادي لقضيتي المتعلقة بتحرير إفادة تخول لي سحب منحة 6 أشهر لأتمكن من السفر إلى وطني، فسَوّف متلذذا بمعاناتي مع أنني لم أطلب منه درهما ولا دينارا وإنما حقا من حقوقي الطلابية، ولكن هل للطلبة حقوق في المغرب.؟ ألا تعج كلياته بمواويل المظلومين أمثالي.'؟  اضطررت أن أكلم شرفاء تجمعهم به صداقة فاتصل به أحدهم وشفعني إليه طالبا منه النظر الآجل في قضيتي موافيا إياه بأزماتي نفسية أعيشها فقال له النذل متهكما:
-علاش هو زربان؟، خصه يستنى وما عنديشي ما ندير، النسخة اللى أعطانيها فيها بالزاف ديال الأخطاء في اللغة العربية، ولكن متقولوهاش له...
فكم تمنيت أن يبدي لي عما تعتري أطروحتي من هفوات لغوية لأصوبها، فأنا لست بدعا في هذا الذي يدعيه علي بهتانا، فالأخطاء المطبعية واللغوية من طبيعة الأطاريح الجامعية كلها، فلو لم تكن كذلك فما حاجتنا إلى المؤطرين في إنجاز البحوث.؟ وعلى فرض صحة دعواه؛ فأنا لا أكتب وحيا يتنزل به علي ملك كريم من السماء. فلست معصوما حتى أسجل مئات صفات خالية من هنات؛ فلو أكون كذلك لما احتجت إليه أن يرشدني ويوجهني، ولكن؛ فهل يرشدني ويوجهني أم أنه يعذبني ويبكيني ويضيّع علي أوقات ثمينة من عمري كان بإمكاني استثمارها في ميادين تكون أنفع من إشراف لم أحقب خلاله غير الندامة والحسرة والندوب والعويل...
بالإضافة إلى ذلك فإنني لست عربيا ولا أحسن بناءا على ذلك اللغة العربية، لقد تعلمتها في بيئة عجمية وعلى أيدي الأعاجم أيضا. فأنا لا أعرفها إطلاقا، ولذا حينما أتكلمها فإن منطقي يتعثر وتتخلل أسلوبي وتعبيري رطانة فظيعة وأفعل بالحروف الأفاعيل، وإذا ما كتبتها، فإنني أكتبها على الأخطاء، إنني أعجمي كما يقولون هم؛ ولست عربيا ولا أريد أصلا أن أكون، ولماذا سأكون.؟ ولا فائدة لي أصلا أن أكون؟ إنني فخور بأعجميتي يا شهبر ذو النزعة العصبية.
       فلماذا إذن يلام رجل أعجمي جاء من أقصى إفريقيا إلى المغرب لتعلم لغة العرب على تعثر منطقه وطيش سهامه.؟ لم أفد على المغرب إلا لأن أتعلمها تحدثا وتعبيرا وتحبيرا. فلماذا إذن لا يصوب طيش قلمي وزلته، ويقوم اعوجاج لساني ويعالج عجمتها.؟ وبدلا من ذلك فإنه يروح في مقاه الذي يقضي به سحابة أوقاته وهو ينعق بأشياء مفتعلة دون أن يلمح لي ولو سهوا يوما واحدا أو ينبهني إلى ما يدعيه مع أننا نلتقي من حين لآخر.؟ فشفاعات الشافعين بخصوص كتابة هذه الورقة لم تغير من تماطله شيئا وإنما زادته عنادا، وما كان لي مندوحة أخرى غير الانتظار. فأنا أيضا ما عنديش ما نعملو.'
وطللت أنتظره بصبر كبير، ولما طاب له مزاجه حرر لي ورقة الإذن بالسفر بعد انتظار طويل، وطويل، واضعا إياها في ظرف مقفل كاتبا عليه هذه العبارة:"يسلم لموسى الغيني"، تصور أنه ما سلمها لي شخصيا وإنما تركها لدى حانوتيٍ في أسفل برجه المشيد متحاشيا لقائي، هاتفته فدلني على المحل فذهبت واستلمها منه، لم يقابلني ليواسيني على مصائبي: وفاة ابني وأبي، مع أنه كان على كل شيء عالما.
سافرت إلى بلدي لاستكمال الشق الميداني من عملي وأنا منه من القانطين، إنه عديم القيم والإنسانية. فلو كان يدرس في بلادنا، ويحضّر بإشراف أستاذ غيني يعامله بمثل ما يعاملني به الآن، بل ويتلقى خلاله نبأ وفاة أحد ابنيه اللذين يحرص عليهما أكثر من حرصه على سواد عينيه، أو وفاة أحد والديه اللذين ما من شك في أنه يحبهما كحب كل إنسان والديه؛ فكيف سينظر إلى هذا الأستاذ الغيني وبالأحرى إلى الغينيين، أما كان سيكرهه كما أكرهه أنا الآن وأكاد أكره أيضا المغرب والمغاربة لولا تلك القلوب العطوفة والأيدي الرحيمة التي امتدت إلي من أقاصي تطوان ومرتيل لتسعفني وتدهن نفسي وترد إليها الابتسامة والطاقة الروحية التي مكنتني من الصمود في هذه المحنة.؟
       يعيد على مسامع الطلبة أنه تعلم في إسبانيا ويتباهى بذلك في القاعات والمدرجات. وأكيد أن أولئك "النصارى" كما يقولون لم يعاملوه أبدا بمثل ما يعامل به هو عباد الله المساكين، فهم على الرغم من نصرانيتهم، أحسن منه ومن أمثاله سلوكا، وأدبا، وخلقا، وقيمة، وإنسانية بألف ألف مرة. ويرأس اليوم وحدة المناظرات الدينية ومن قبلها الحضارات. غير أنني لا أدري كيف ينظر من موقعه رجلا دينيا أو حضاريا إلى هذه الممارسات غير الأخلاقية المتنافية لروح الدين والحضارة، إنه جرم كبير في حق الدين والحضارة. ؟ ويا حبذا لو يفتح وحدة ويسميها: وحدة التسويف والسادية، والصلف... بدلا من الحضارة التي هي في جهة وسعادته في أخرى. إنها بريئة منه كل البراءة. وا أسفاه على الحضارة حينما جعل لها صاحبنا غير العزيز من خدمها.!!!!
XXXXX

   (3)
وبإذن منه، سافرت إلى غينيا في عام 2005، وقضيت بها هذا العام كله، في جمع المعطيات العلمية، في سفر كلفني ماديا وأنهكني نفسيا، وعدت إلى المغرب لأستأنف المسلسل الشهبري. فوجدت له إصدارات جديدة أكثر قبحا. هاتفته مخبرا إياه بوصولي إلى أرض المغرب؛ فوعدني بالالتقاء في الكلية على الساعة العاشرة صباحا، حملت إليه كتبا من تأليف العلماء الغينيين وبلغت الكلية وأنا أنضح عرقا من ثقل ما حملت، وقفت على باب قاعة الأساتذة وطرقته:
   -طق، طق، طق.
 فتح الباب وقال لي بدون مقدمات:
-امتحانكم سيجري يوم كذا...
صمتت هنيهة وأنا أظن أن ثمة فانون جديد قد صدر بعد سفري إلى غينيا ينص على إجراء الامتحان لطلبة سلك الدكتوراه. فأجبته بصوت مستغرب:
   -وأي امتحان هذا يا أستاذ.؟
قال:
   - امتحان السلك الثالث.
فقلت متعجبا مرة ثانية:
   -الامتحان.!!!
فأكد:
   -إيا "صحبي" ما لك، أو لست في السلك الثالث؟
   -أبدا يا أستاذ، أبدا.
   -وماذا تريد إذن، قل لي.
   -أنا الطالب الغيني الذي تشرف على أطروحته.
سألني مجددا والاستغراب باد عليه:
   -الطالب الغيني.؟
   -أجل.
وقفت مصدوما، إنه لم يعد يعرفني، وجمنا كلانا هنيهة رامقين بعضنا بعضا دون أن يكلم أحدنا الآخر في صمت غامض ولا شيء ذو بسمة من ناحيته يدل على معرفته إياي، ألمحته يحملق فيّ ويحبلق رافعا بصره إلى السماء متفرسا في وجهي. فأدركت أنه ينفض الغبار عن ذاكرته، حملق فيّ وظل يحملق حتى تساءلت عما يفكر فيه. فقال مستسلما للنسيان:
-أنتم الأفارقة تتشابهون كثيرا.
 فغرت فمي عن حده من هول ما تلفظ.' إنه كلام لا ينم إلا عن عدم المسئولية؛ فكيف للمشرف أن يجهل هوية طالب يشرف عليه بهذه البساطة ويدعي تشابه الأفارقة.؟؟؟ إن هذا ليس بغير المسئولية فحسب ولكنه سخرية واستهزاء، لأنه كيف يصل التشابه بالأفارقة إلى حد يستحيل معه التمييز بينهم كما يزعم هذا السادي.؟؟؟
 ولما عجز عن العثور على هويتي ومعرفة من أكون بالنسبة إليه، ذكّرته بأحداث جعلته يعرفني، واعتقدت أنه بعد كل هذا سيدعوني إلى المكتب ليطلع على كتب تجشمت في الحصول عليها بغينيا ومن ثم حملها إلى المغرب كل التجشم، ولكننا ظللنا واقفيْن نتجاذب أطراف الحديث في ذلك الدهليز العاج بالضجيج والضاج بالعجيج وبصرخات الطلاب المترامية إلينا من كل الأطراف، تحوّل حديثنا إلى لحن يحجبه الهدير المتواصل. دنا مني ماسكا بغلاف كتاب في يدي بطرف إبهامه وسبابته كمن أرغم على حمل جثة فأر وهو يعاف رائحته الكريهة قائلا:
-مزيان، ما عنديش ما نسالَك.
فسألته:
-لقد تركت لديك قبل السفر نسخة من أطروحتي فهل فرغت من تصحيحها.؟
-مازال، المهم قدم لي البحث كاملا قبل أكتوبر 2006.
وافترقنا يومه على لا شيء.!!
ولم تمض شهور  على هذا اللقاء حتى سلمت له البحث كاملا كما طلب؛ فاستنظرني لمدة خمسة عشر يوما سيقوم خلالها بتصحيحه ومن ثم سيأذن لي بالطبع وإيداعه في الكلية، بل وأكد أنني سأناقش في أكتوبر المذكور، طالبا مني الاتصال به لاحقا، رضخت لأوامره منتظرا ولا خيار آخر لي إلا الانتظار. بيد ما انقضت خمسة عشر يوما حتى حدد أخرى ناسيا أو متناسيا عن الأولى، إنه يعد ولا يفي، وما أن يحدد موعدا حتى يفسخه بلا سبب معقول، وهكذا يفعل المتصلفون والمراوغون أمثاله.!!  ومن هنا أدركت صعوبة هذه المسيرة التعذيبية المسماة بــ الإشراف.
بدأت في الجريان وراءه في المقاهي كالكلب وصاحبه، مكثرا الاختلاف إليها حتى كدت أكون نادلا في مقهى "زنْوَا" حيث يقضي سحابة نهاره وجزءا من لياليه، وتارة لا يقدم فأظل واقفا وأنا أذرع شارع الجيش الملكي جيئة وذهابا مترقبا بابه لعلي أراه يخرج من برجه العالي، وما أن يقدم حتى يعدني بالالتقاء في الكلية؛ فأذهب ولا ألقاه، وما أن ألقاه أيضا حتى يحدد لي شهرا آخر للقاء.
ظلت ذات مرة أنتظره قبالة عمارته من الثامنة صباحا إلى الثالثة مساء وأنا أجوب ذلك الرصيف الذي أصبحت في آخر الأيام أكره حتى رؤيته، لقد ذرعته كثرا وكثيرا قاضيا عليه الأوقات الطوال على شاكلة حراس السيارات، وبلغت أكاذيبه مداها إلى حد إيهامي بالسفر إما إلى تركيا أو الإمارات العربية المتحدة وربما إلى المريخ لست أدري، وأحيانا يقول إن الاسطوانة المسلمة له لم تفتح فكنت أسلم له أخرى لتذهب كل الانتظارات سدى ونستأنف اللعبة من جديد.         
وفي هذه الأثناء، رأيت الخطر الجسيم يداهمني من كل أطرافي، خطر سوف يقلب أموري رأسا على عقب، لم أتوجس خلال هذه الرحلة الشاقة من شيء أكثر من توجسي من هذا الخطر، إنه خطر فقدان المنحة الدراسية، والخوف منه جعلني أكثف الجهود باذلا كل ما في وسعي من طاقة مادية ومعنوية من أجل إنجاز الأطروحة في الوقت الأكاديمي المحدد، غير أن قدري أبى إلا أن يتعثر لأختنق بصنوف من المشاكل العويصة بتجاوزي المدة القانونية المعطاة لي من الوكالة المغربية للتعاون الدولي والتي لم تتردد لحظة في قطع المنحة عني، مشترطة علي لتمديدها إحضار إفادة أخرى من لدنه. إنها لرحلة شاقة أخرى ستبدأ.
انقلبت أموري رأسا على عقب، وبدأت أعيش حياة لم أعش مثلها قط خلال مسيرتي الدراسية، إذ صرت لا أتقاضى منحة تقيم لي الأود، مما جعلني متقشفا كبيرا، متبعا نظاما غذائيا رديئا غير صحي بالمرة: نصف وجبة في اليوم، وهو مع هزاله، كنت غير قادر في غالب الأحيان على توفيره، وأصبحت "الحرشة" والرغيف (زوز دراهم ونصف) وجبتي المفضلة صباحا ومساءا، مخنوقا بالمصاريف الكرائية مصحوبة بفواتير الماء والضوء، مهددا بخطر المبيت في الشارع، إنها أمور أقلقتني للغاية، شرحت له وضعيتي المادية المزرية لعله يتفهمها ويعطف عليّ ولكن بلا جدوى، وكيف يجدي الصراخ مع إنسان فاقد الإحساس وعديم الإنسانية.؟ وأنى له أن سيستشعر معاناتي ويدرك حجمها وهو الذي يسكن برجا عاليا يأتيه فيه رزقه رغدا من كل مكان بدون عناء، ويتوفر على مائدته الباذخة على صنوف من الأطعمة والأشربة من كل ما طاب ولذ، وحوله على كرسيه الواثر أولاده يترنح بينهم.؟
وأما أنا؛ ففي صراع محتد من أجل توفير خبزة حافية تحفظ لي روحي. فكم من مرة بتت فيها متلويا جوعا. ؟' ولئن تشتكي إلى الجلمود لأفضل من الاشتكاء إلى هذا الإنسان عديم الشعور والقيم، هذا الذي يتجاهل عن كونه في فترة من الفترات طالبا مثلي فمنّ الله عليه وجعل الدنيا تدر عليه بالخيرات، إذ يكنز من حطامها اليوم ما يكنز حتى إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، بل وما يزال يطمع أن يزيد.!
ذرعت الرباط جيئة وذهابا، فسُمح لي بعد مخاض شديد بتمديد المنحة، وألزمتني الجهة المانحة بضرورة إحضار ورقة منه يوافيها فيها بحالة بحثي، رجعت إلى تطوان والفرحة تغمرني، واتصلت به فطلب مني اللقاء صباحا في مكتبه في الجناح المسمى في الكلية بالمسالك، وحينما بلغتها يوم الموعد، توجهت إلى مكتبه واقفا على الباب طارقا إياه بقلب طروب:
-طق، طق، طق
فتحه قائلا لي وهو متجهم كالبوم الغاضب:
- أهلا يا موسى، وكيف الحال.؟
  - الحمد لله دائما.
  - وماذا تريد.؟
  - أريد منك إفادة لتمديد منحتي، لقد سافرت إلى الرباط فقالوا لي...
 قاطعني معنفا، ويداه المدسوستان في جيبيه سرعان ما أخرج اليمنى محركا سبابته يمنة ويسرة كمن يطرد عن نفسه الذباب وهو يقول بصوت هائج:
-لا، لا يا موسى، أنا الآن لم أعد أعطي أية ورقة للطلبة، لقد تلقيت مكالمة من العميد قبل قليل يمنع علي فيها هذا الإجراء لا ولا....
أجبته متوسلا:
- يا أستاذ، الله يرضى عليك؛ أنا شخصيا لا أرغب في هذه الإجراءات، لقد مللت منها؛ فكم أتمنى أن أراني يوما ما بعيدا عن الوكالة ومشاكلها غير المتناهية.؟ إن هذا الإجراء مفروض علي وليس من اختياري.
ولكنه استعصم، وظل مستعصما غير مكترث لما أقول وإنما أضاف:
-أنا مجرد موظف لدى الكلية عليك أن تفهم ذلك، لا أستطيع.
حاولت إقناعه بلا فائدة، وفي كل مرة ظل رافضا، وظللت أنا مصرا على طلبي، إنه من حقوقي الطلابية، وكان لدي هذه الأثناء نموذج لهذه الإفادة التي أريدها منه، كتبته في الدار، دنا مني آخذا إياه مجيلا فيه نظرة متفحصة، وفجأة تلاشى عن شفتيه الابتسامة وازداد وجهه تجهما وانفجر غضبا وهاج هيجانا مهولا، مبصبصا على شاكلة الكلب المسعور الجالس على جراميزه في عرض الطريق وهو يتناوم فاتحا طرف عينيه في انتظار الفرصة المناسبة للوثبة على الفريسة، وهذا ما فعله سعادة تطوان، حيث زمجر هذا اليوم زمجرة مزعجة وقال رافضا بشكل قاطع:
- لن أعطيك أية ورقة، وهذا ليس مني وإنما من العميد، هل فهمت.؟
وما كان لهذه الزمجرة أن ترهبني حتى أتنازل عن حقي؛ فقلت له بصوت مستغيث:
-                      يا أستاذ، إنني أتفهم ما تقول ولكن...
قاطعني من جديد، ولكن في هذه المرة؛ أخذ مني الورقة وكمّشها في يده مرشقا إياي بها مقفلا باب مكتبه مصفقا إياه وراءه بالقوة قائلا:
-                      فضّينا وصافي.
يا إلهي هذا ما كان ينقصني في هذا الإشراف، وقفت ناظرا إليه وقد ولاني ظهره فتشجعت وناديته بصوت تتخلله وعكة خفية:
-أستاذ، أستاذ، أستاذ... إذا لم تحرر لي هذه الورقة، سوف لن أجد المنحة، وفي هذه الحال، كيف سأعيش بدونها.؟
لم يلتفت إلي فضلا أن يجيبني، وراحت توسلاتي الحزينة مع الريح رددت أصداءها حيطان الكلية، وقفت وحيدا ماسحا دمعي المتقاطر وأنا أتساءل عمن يمكن أن أشكو إليه هذا الأشر.؟ وما كان لي إلا أن أجمع ما تبقى من شخصيتي الميتة وكرامتي المدسوسة وأغادر الكلية وأنا أمشي في خطوات متثاقلة متعثرا بفعل صدمة الإهانة والذل المتناهي، بلغت غرفتي مضطربا وأنا أتمنى أن أجد فيها من يواسيني ويخفف عني ما تعرضت له هذا اليوم المنحوس فلم أجد فيها أنيسا غير الأحزان المتراكمة في زاويتها مثل الكومة.!! إنها حجرة لا تدخلها السعادة والبهجة أبدا. لقد كان تصرفا سيبقى مقترنا في ذاكرتي بعدم النسيان إلى الأبد.
ومضت شهور على هذا الحدث، عاودت الاتصال به من جديد، ولكن لم يكن بخصوص الورقة وإنما لأعرف حال بحثي المغبر على رفوف الإهمال، رنّ هاتفه فرفعه:
-ألو، إشكون معايا.؟
- أنا كوناتي موسى الغيني.
- أهلا يا موسى، أهلا، محييا إياي بحرارة كبيرة على غير العادة سائلا عن أحوالي وكأنها تهمه، مع أنه هو السبب في كل هذه الأمور التي حولت حياتي إلى الجحيم المتلظى.
وقال كعادته:
-يوم الأربعاء نلتقي في مكتبي بالكلية سأدفع لك تلك الورقة لتذهب إلى الرباط وتمدد منحتك "واخا" يا موسى.؟
- واخا يا أستاذ لاعنا إياه بعد ما أقفلت السماعة.
وجاء بها كما وعد، وكانت المرة الأولى التي وفى فيها بوعد من وعوده خلال هذه السنين الطوال كلها، إنه اعتراف جسور مني بالرغم من كرهي له. ولما تلاقينا، صافحني مصافحة حارة مبتسما وقال:
-اسمح لي في ذلك النهار، لقد كنت معصّبا جدا، أتيتني على إثر مكالمة جرت بيني وبين العميد، منع علي فيها إعطاء أية إفادة لأي طالب كان، لقد عصّبني ذلك بــــ "الزاف"، والأمر كان يتعلق بطالب أردني جاءني لأسجله في الوحدة، أكثر من سنوات وهو يطلب مني هذه الخدمة ولكن العميد يرفض تسجيله، لدينا بــــ "الزاف ديال" المشاكل مع هؤلاء القوم في هده الكلية، يرفضون تسجيل هؤلاء الطلاب مع أن لبلدانهم معاهدات مع المغرب ولا أعرف لماذا.؟
 تكلم وكأنه المدافع عن الطلاب الأجانب مجرّما خصمه اللدود "علاتي" مبرئا نفسه من كل شيء مع أنه جلادنا الأكبر. استمعت إليه دون أن أعلق على ما يقول عن العميد الفائز عليه في المعركة على كرسي الكلية الواثر؛ فما أقواله وما ألوانها.؟' إنه لا يفغر فمه إلا عن الأكاذيب، لاعنا إياه في داخلي لعنا كبيرا متمنيا له سوء الختام، فهو السبب في فقداني منحة بلادي ومن قبلها المنحة المغربية، لأنه وعدني وأغراني حتى وثقت بوعوده. فقال لي ونحن في 2003 إنني سوف أناقش في عام 2006 وأكد ذلك، وفي ألفين وثلاثة هذا، جاء وفد وزاري من غينيا إلى المغرب ووزع على الطلبة الغينيين الممنوحين من الدولة استمارات للتعبئة، وطالبهم فيها بتحديد الفترة الزمنية لانتهاء دراستهم بالمغرب، وبما أن سعادته لا جزاه الله خيرا أبدا قد وعدني بالمناقشة وأكد، عبأت استمارتي محددا فيها دون أدنى تريث أن دراستي سوف تنتهي في 2006 وسلمتها للملحق الثقافي في السفارة الغينية بالرباط.
طلع علينا العام الموعود به 2006 وانقضى، وطلعت بعده أعوام وأعوام كثيرة ودار لقمان لم تتغير، إنه التعثر الحقيقي، لقد تعثر قدري في مرات سابقة ولكنه هذه المرة تعثر أكثر؛ فالوعد لم يكن وعد صادق، وأدركت بعد فوات الأوان أنني لم أكن إلا متمسكا بخيوط أوهى من بيت العنكبوت.؟ تسرع متهور كلفني غاليا، ودفعت ثمنه باهظا جدا جدا، حيث عشت ما تبقى لي من فترة دراسية بالمغرب بلا منحة، لا من طرف بلادي ولا من لدن المغرب، وساءت أوضاعي المعيشية هذه المرة أكثر من أوقات مضت.
وقفت ذات مرة رفقة صديق لي قاده قدره العاثر مثلي إلى هذا التعذيب النفسي المسمى بالإشراف في أسفل عمارة الأخطبوط على موعد بيننا وبينه، وظللنا واقفيْن ساعات طوال دون أن يكون له ظهور، هاتفناه؛ وفي كل مرة تجيبنا اتصالات المغرب وترحب بنا، وقفنا حتى مللنا من الوقوف، وفي أثناء ذلك، مرت بنا سيدة وحدجتنا بنظرات غريبة، وقفت إلينا وسألتنا:
-من تريدان.؟
- الأستاذ شهبر.
-ألكما معه موعد.؟
- أجل.
فهمنا من خلال هذا الاستنطاق أنها زوجته، لقد سمعت عنها كثيرا، وهذه هي المرة الأولى التي أراها فيها.
وأضافت:
-وهل اتصلتما به هاتفيا.؟
- كثيرا جدا، ولكن هاتفه مقفل.
قالت لنا وهي تصعد على الدرج:
-                      ربما ذهب لزيارة والدته، ولكن انتظراني لخمس دقائق، سأحاول الاتصال به بهاتفي.
خطتْ خطوات ثم وقفت سائلة إيانا عن هويتنا فأخبرنا ها بها. وعادت بعد برهة وقالت:
-لقد اتصلت به هاتفيا، ويطلب منكما الالتقاء مساء اليوم أمام المكتبة العامة في تطوان على الساعة الرابعة، صافي.؟
-          صافي، يا أستاذة، شكرا.
-          لا شكر على الواجب.
نظرنا أنا وصديقي إلى بعضنا وشكوك تساور كليْنا؛ فقال لي صديقي بصوت خافت:
-          يبدو لي أن الأستاذة كذبتْ علينا.
- وهذا ما تحدثني به نفسي.
وأضفت:
إن زوجها موجود في المنزل، وإلا كيف استطاعت أن تتصل به والهاتف مقفل، ومنذ ساعات ونحن نهاتفه دون جدوى.؟' فما نوع الهاتف لديها مما ليس لدى الآخرين حتى تتمكن من الاتصال بشخص في حال كون هاتفه خارج التغطية.؟ أمر غريب.! ولكن؛ هيا بنا ندخل إلى هذا المخدع الهاتفي لنتأكد فيما إذا كانت فضيلة الدكتورة الجليلة من الصادقين، اتصلنا به في الحال مرات ومرات عديدة دون أن نقدر على فتح هاتفه كما قدر عليه هاتف زوجته، وعلمنا علم اليقين أنه بالمنزل، وأنها من الكاذبين، إنه عين التعاون على الكذب عوض البر والتقوى، لقد كانت موازينها لدي ثقيلة بالاحترام وفائضة بالتقدير، ولكنها يومئذ خفت؛ فهذا هو سلوك حملة لواء العلم ووهاج التنوير. ويا له من عجب.!


(4)
مللت من المواعيد الكاذبة، واضطرت إلى الاتصال ببعض أصدقائه الأعزاء طلبا للتدخل، ومن ضمنهم أستاذ نعم الإنسان هو، إنه ذو الكرم والمروءة، أسدى إلي معروفا كبيرا في وقت تقطعت عني كل السبل، فدعواتي الخالصة له على وقوفه إلى جانبي في محنتي، أخذ قضيتي على محمل الجد وكان يكلمه كلما يلتقي به. الصدفة خير من ألف ميعاد، صليت ذات يوم في مسجد بتطوان يؤمه صديقه هذا، والظلاّم معتاد على ارتياده أيام الجمعة؛ فرأيته بعد الصلاة واقفا بصحبة مجموعة من الإخوة الشرفاء ينتظرون خروج الإمام، دنوت منهم وسلمت عليهم ثم تنحيت واقفا جانبا، ولما جاء الإمام أخذني من إحدى يدي قائلا:
-السي موسى اقترب.
دنوت منهم ووقفت. فقال لسعادة السادي أمام الجميع:
  -السي عزيز، ها هو السي موسى، الله يرضى عليك؛ حاول أن تفك أسره، لقد تعطل المسكين بالزاف ...
  فأجابه كاذبا:
-موسى ديالي، أنا وإياه متفهميْن، ما يدخلوشي شي أحد بينتنا.
فغرت فمي وأنا أتساءل عن هذا التفهم الذي يدعيه المسخوط، إنه يكذب على الناس، فلا يوجد بيننا أي تفهم، لاعنا إياه في داخلي لعنا كبيرا باصقا في أسته، "اطف على الحمار".
وأضاف مسخه الله موهما أولئك الشرفاء بحسن نيته:
-نهار الاثنين، أجي عندي في الكلية، غادي نعطيك الإذن بالطبع بس تدفع بحتك للكلية، صافي.؟
هززت له رأسي:
- صافي يا أستاذ.

وأضفت:
-إن لدي مشاكل عويصة مع الكوميسيريا في مرتيل، لقد انتهت صلاحية بطاقة إقامتي وأريد تجديدها، ولكن ذلك لا يمكن بدون شهادة المنحة وأنا الآن غير ممنوح.
-أعرف كل ذلك.
  مضيفا متنافقا طبعا:
-شكرا لك يا أستاذ على خدمتك لنا.
  -لا شكر على الواجب، أنتم الأجانب عندي "أخوت". سنلتقي يوم الاثنين. صافي.؟
  -صافي.
قاله وأكده، ولكنه مجرد كلام معسول لم يرد به إلا تمويها للشافعين، ذهبت إلى الكلية يوم الموعد، وظللت في انتظاره ساعات طوال حتى طال بي الانتظار، ولما لم يقبل، دخلت المخدع الهاتفي لأخسر بعض دريهمات في المكالمة، رن الهاتف ورن بشكل متواصل، رفع السماعة بعد رنات كثيرة، وربما لم يرد رفعه لأنه يعلم من يكون المتصل به، إنه الغيني المزعج. فقال:
 -ألو، اشكون معايا.؟
 -أنا موسى.
 - وماذا تريد.؟
 - اليوم موعدنا أو ليس كذلك.؟
 - آه آه، لقد نسيت، نؤجله إلى يوم الأربعاء.
جئت يوم الأربعاء باكرا، وجلست حيث من عادتي أن أرابط كلما أقدم للقائه بالكلية، وبعد برهة، جلس إلي طالب نعرف بعضنا وعليه أمارات القلق والتوتر، تجاذبنا طرفا من الحديث حول الإشرافات بالمغرب وهمومها. فسألني بصوت حزين:
 -من تنتظره هنا.؟
 - شهبر.
 قطب من مكانه ملتفتا إلي وقد أصيب بذعر وقال متعجبا:
- شهبر.؟'
 -أجل، شهبر، ومما صدمتك.؟
 - أكثر من شهر وأنا أجري وراء هذا الحقير من أجل الإمضاء على ورقة أريدها منه إلى وزارة التعليم العالي بالرباط.
وسألته بدوري:
 -وهل تحضر بحثا بإشرافه.؟
 - لا، المشرف علي هو الأستاذ الفلاني...(لم أعد أذكر اسمه)، لقد وقّع لي منذ، ومشكلتي الآن مع شهبر؛ فلا بد له أن يوقع بصفته رئيسا للوحدة، ولكنه يماطل، أنا موظف في قطاع التعليم ببلادي، أخذت إجازة قصيرة إلى المغرب لهذا الشيء فقط، وقبل المغادرة، اتصلت به فطلب مني الحضور في أقرب الوقت إن كنت أرغب حقيقة في التسجيل، لقد انتهت إجازتي ويجب علي الرجوع، أفٍ لهذا الرجل، لقد أتعبني كثيرا، إنه خبيث والله، اطفُ...متمتما بوحده سابا إياه بسبات مقذعة.
أدركت بأنني لست وحيدا في هذا العذاب. فهنالك إذن آخرون يعانون مثلي ويبكون في صمت مطبق دون أن يحس بمرارته أحد، نحن إذن كثر .' وكل واحد يفرق عليه نصيبه من العذاب الأليم بطريقة واحدة هي السادية والصلف.
 كان جليسي وبالأحرى شريكي في العذاب يغلي هيجانا أكثر مني، رمقته فوجدته في حالة يرثى لها، حنّ عليه قلبي المنكسر وبكى على حاله الكئيبة،  كان محمرّ الوجه كالجمرة، منفوش الشعر، وكأنه لم ير المشط منذ أن خلق، مكمش الثوب، قلقا على انقضاء إجازته حتى لا يفقد عمله في بلده. وأما أنا؛ فلست إلا بطالا كبيرا أقضي سحابة أوقاتي جائبا شوارع مرتيل صائلا في أزقتها رابطا في المقاهي والحدائق العمومية هنا وهناك، تائها، ضائعا، وتاعسا؛ فكم من أمثالي في المغرب من ضحايا الممارسات السادية.؟ تمتم الرجل وظل يتمتم حاكيا لي مشاكله مع سعادة ممثل الحضارة والأديان وأنا أيضا حكيت له معاناتي معه.
 وفي هذه الأثناء، رأيناه بشاربه الكبير ونظارته الشبيهة بنظارة البطل الهندي المهاتما غاندي يدخل الكلية، وما أن رآه الطالب الموريتاني حتى انهال عليه بالشتائم المقذعة:
-ها هو "المسخوط" جائي، اطف على الحمار اطف على الكلب...".
اقترب منا النذل وقال:
-السلام عليكم.
-وعليكم السلام يا أستاذ مبتسمين في وجهه طبعا ولم لا وهو سيد الغابة.!!!
نهضنا إليه واقفين حوله، بدأ يفرق علينا الكِذبة. فقال للطالب الموريتاني:
- لقد وقعت على ملفك وهو الآن في مصلحة الدراسات فراجعهم، وأنت يا موسى، ليس عندك "الزهار"، لقد قرأت بحثك هذا الصباح ولكنني عند الخروج نسيته فوق الطاولة؛ فمر عندي غدا في المنزل لتأخذه وتطبعه وتدفعه للكلية في أقرب وقت ممكن، لقد تأخرت كثيرا.
-طيب يا أستاذ.
هنا افترقت أنا وشريكي الموريتاني حيث اتبع كل منا سبيله في دروب المشاكل سربا، فذهبت إليه في الغد فقال حينما لقيني:
آسف، لقد نسيته بالكلية في مكتبي والله العضيم، نلتقي يوم الأربعاء.
وهكذا قضينا عام 2005 كله في هذه الألعاب المسماة بالإشراف، جئت إلى الكلية مساء الأربعاء منتظرا خروجه من القاعة، وما أن خرج ورآني حتى هرول إلي وأنا من ناحيتي أسرعت إليه، فتلاقينا وسط الدهليز وتصافحنا متعانقين عناقا ملتاعا غير مسبوق، وكأننا التقينا بعد فراق دام حينا من الدهر، استغربت، واستغرب الحاضرون من أصدقائي، فقال لي بصوت مبشر:
   -بالأمس، كتبت لك الإذن بالطبع، وصعدت به شخصيا إلى العميد ليصادق عليه، وستتوصل إليه عبر البريد خلال ستة عشر يوما، وموعدنا إذن سيكون في الخامس عشر من شهر 5 من عام:2006.
وأضاف سائلا إياي:
-من ترجح من الأساتذة أن يكونوا في لجنة المناقشة.؟
       اقترحت عليه:
   -الدكتور توفيق الغلبزوري، والدكتور محمد أوغانم.
فقال:
   -هؤلاء كلهم من وُلد البلاد.
وقلت في نفسي:
-وأما أنت فوُلد من.؟؟؟
       وسألني مرة أخرى:
   -ألا يمكن مثلا أن يأتي واحد من السفارة.؟
   -بلى؛ يمكن.
   -ولكن ممن لديه الدكتور.؟
   -لا. الموجودون في سفارتنا ليس لديهم الدكتوراه.
وأضفت أيضا:
-ألا يمكن أن يشارك فيها الدكتور قطب مصطفى سانو من ماليزيا.؟
قبض وجهه:
   -لا، إنه في المحاضرة مزيان، ولكنه في المناقشة صعيب، وسأبحث لك عن أستاذ آخر في التاريخ من وُلد البلاد، لقد فكرت أن يكون إدريس خليفة في اللجنة، ولكن لديه مشاكل دياله... إن هذا العميد علاتي يتدخل في كل شيء بهذه الكلية، ويريد أن يمر كل شيء أيضا من طرفه، وحتى اختيار أعضاء لجنة المناقشة يتدخل فيه؛ فأنا لن أقبل أن يفرض علي أشخاصا لا أريدهم، والواجب عليه أن يشاورني، ولكنه لن يفعل، أعرفه جيدا...
غمرتني الفرحة العارمة هذا اليوم إلى حد لا يوصف، فعدت إلى وكري بمرتيل وأنا أكاد أطير عن طوري فرحا، وجعلتني الفرحة أتوهم أن كل شيء سينتهي بمجرد توصلي بتلك الورقة؛ فانتظرتها بكل شغف حتى كدت أذوب على جمرة الانتظار متعجلا على الأيام أن تجري وتجري على غير العادة، وبالليالي أن تنقشع ظلامها لتشرق الشمس، حالما بالعودة إلى بلدي، حانا إلى أمي وخبزها الذي لم أتذوقه منذ السنين، وإلى ولديْ ومداعبتهما، وإلى كافة أفراد عائلتي ومجالستهم، حالما بزيارة قبر أبي الراقد في ذلك العالم المنسي والموحش بطريق مدينة "لولا" قبل أن تستوي ربوته بالأرض وتتلاشى معالمه عن الأنظار ويصير مجهولا.
مضت الأيام دون أن أتوصل إلى شيء، وما كان لي أن أتوصل إليه أصلا، وأنى لي أن أتوصل إلى "إذن بالطبع" أرسل إلي في الخيال أنى ذلك.؟ قضيت عاما كاملا في انتظار ورقة أرسلت من كلية الآداب إلى البريد بمرتيل، علما أن المسافة بين المكانين يقطعها الراجل في غضون ثوان فما بالك بسيارة بريد المغرب.' ولما لقيته ذات يوم قلت له:
إلى حد اليوم لم أتوصل إلى شيء، لقد تأخرت هذه الورقة كثيرا، وهل فعلا سيرسلونها إلي.؟
أجابني:
-الأمر الآن لا يتعلق بي، لقد فعلت الواجب. فالعميد هو الذي يماطل، وربما تأخرت الورقة عند تلك السيدة في مكتب السلك الثالث والدكتوراه نعمت والتي لا تعمل عملها جيدا.
وعلى إثر ذلك، عدت من الكلية محبطا نفسيا، كنت أمشي وأنا ألعنه في الخيال متصور إياه مرميا في أقذر المزابل تبول عليه حمير مرتيل وبغالها وكلابها، جاعلا إياه تحت قدمي، رافسا إياه داسا وتافلا عليه، رائيا نفسي متعاركا معه في الخيال، آخذا إياه من تلابيب قميصه ناطحا موجها إليه الضربات القاضية، وهكذا جزاء الكلاب.
 وفي غمرة هذا الخيال الذي أنا تائه في أمواجه، التقيت صدفة بالسي فوزي زوج السيدة المحترمة والشريفة باتول صاحبة الوكالة التي أكتب لديها العديد من بحوثي، والسي فوزي أستاذ بإحدى مدارس الفن بتطوان، أكن له ولحرته كل التقدير لما يتسمان به من الكرم والطيبوبة؛ فما أظرفهما إنسانيا وخلقا'. وأتمنى لطفلتهما فيروز حياة سعيدة، استوقفني هذا السيد سائلا:
   -السي موسى، فيْن وصلت مع أستادك.
   -الأمر باق كما كان.
   -يا لطيف، واشنو خصه.؟
   -والله السي فوزي ما نعرَف.
طلب مني أن أعطيه اسم هذا المشرف وبالأحرى المسرف فقدمته له فقال:
-أنا لا أعرف أساتذة كلية الآداب، ولكن سأسأل عنه، فإن كان ممن أعرفهم، سأذهب إليه شخصيا لأتكلم معه في شأنك، وإلا سأبحث عمن يعرفه من أصدقائي، نحن الآن في الصيف، فإذا وجدت مشكلة في السكن اتصل بي وسأساعدك.
ذهبت بعد أيام إلى محلهم وأُخبرت بأن السيد فوزي يطلب مني إذا قدمت أن أترك له رقم هاتفي، وأنه بأمس الحاجة إلي، وفي إحدى الليالي، هاتفني مخبرا إياي بأن صديقا له وهو صحفي، يعرف المشرف اللعين، وإنه قد تكلم معه في قضيتي، وسيوافيني بما سيسفر عنه هذا الاتصال لاحقا، وراح هذا الصحفي الذي لا نعرف بعضنا إليه وقال له حسب إفادات السيد فوزي:
-إن هذا الذي تفعله بهذا الطالب غير معقول، عام كامل والمسكين ينتظر، ولا تنس أن بإمكانه إخبار سفارة بلاده، السيد متزوج وله أولاد ينتظرونه في بلده، إنه أجنبي وتتبعه مشاكل كثيرة...
كذب على هذا الصحفي:
-موسى، كنعرفه مزيان، وكيعيش في المغرب مع مراتوه وأولاده، وهو كيهدر بالزاف. لقد فضح بي في جوامع تطوان كلها، وبحته ضعيف، خصه يستنى وصافي...
التقيت بالسي فوزي فقص علي هذه الأساطير. فأنا لا أرد على قوله بأنني أعيش مع زوجتي في المغرب وإنما أترك الرد للذين يعرفونني أكثر منه، فهذا هو الخنجر المسموم الذي يطعنني به في ظهري كلما وليت.'
حفّظه كلام الصحفي فبلع غيظه الشديد ليوم يلقاني فيه، وحصل أن ذهبت إلى الكلية ذات صباح باحثا عنه، وإذ أنا قادم من أحد الدهاليز فإذا بنا نلتقي صدفة وهو في رفقة أستاذ آخر يتحاوران والابتسامة عريضة على وجهه، وما أن رآني حتى تجهم كالبوم الغاضب وقال لي هائجا:
-موسى، استناني هنايا خصني نهدر معك.
دخل إلى قاعة الأساتذة، ووقفت أنتظره في هذا الدهليز الأشبه بخلية النحل أو ببحيرات تعوم فيها الضفادع المصطخبة، ثم خرج وناديني:
-موسى، أجي الهنا.
دنوت منه؛ فأخذني من يدي اليمنى ونأى بي جانبا ووجهه محمر أكثر من احمرار الجذوة، وجبينه مقبض كالجلد المدبوغ مكشر عن أنيابه السامة، منتفخ غيظا كانتفاخ الضفدع حتى إن أزرار قميصه كادت تتطاير جراء هيجانه المفرط. فقال مهددا إياي:
علاش مشيت عند هدا الصحفي الكحل اللي جاء يقلّب علي في القهوة، علاش.؟ وقبيْل أعطيت (CD) لذلك الأستاذ( يقصد الغلبزوري)، وهو بدوره أعطاه لأولئك الناس(يقصد عبد المجيد حدوش وبقية أصدقائي اللذين أجلس معهم في قهوة...) ليصححوه، وهدا بالصراحة ما أعجبانيشي، أنا لا أعرف غيرك في هذا البحث، وهذه المسائل تخصني أنا وليس غيري، خل الأمور بالطبيعي، ودعني أخدم مع راسي بدون تدخل من أحد، ومن دابا الفوق، ما تمشيشي لا عند فلان ولا فلانة للتدخل، وسأحاول في هذين اليومين أن أصحح لك بحثك؛ وإن استمررت، راح يسبب لك مشاكل، لقد كتبت لك الإذن بالطبع وهو الآن عند العميد للمصادقة عليه، وسوف يرسله إليك عبر البريد...
أجبته بصوت خافت وحزين:
-يا أستاذ، إن ظروفي المعيشية غير الملائمة هي التي تدفعني إلى طرق أبواب الوساطة، وما أفعله عن أمري وإنما فرضه علي وضعي الصعب، لقد انتظرت شهورا وشهورا دون أن أتوصل بهذا الإذن بالطبع الذي أعطيته للعميد، أنا لا أرى داعي لأن أنتظر كل هذه المدة. فبإمكاني الذهاب إلى العميد أو السيدة نعمت لآخذ نسخة من هذا الإذن.
قاطعني بلغة صارمة:
-لا، لا تذهب عندهم، ولا تتصل بهم، أنت انتظره فقط، وسأذهب إلى العميد لأذكره، اجلس في بيتك والزم الصمت. فعندما أنتهي سأتصل بك بالهاتف.
       قال كلمته وانصرف تاركا إياي وراءه واقفا فارضا علي عقوبة السكوت ولزوم البيت، إنها إقامة جبرية دخلت حيز التنفيذ بقرارات سادية غير قابلة للمراجعة، افترقنا هذا اليوم على غير العادة، وتحولنا بعده إلى أعداء يتحمل كل منا الآخر على مضض كبير. وما كان لي إلا أن أذهب وألزم بيتي كما نص عليه القرار الصادر عن المجلس السادي، وغبنا عن بعضنا شهورا وشهورا، عشت خلالها مخنوقا بالمشاكل: صعوبة توفير الخبزة اليومية، العجز عن دفع السومة الكرائية؛ وبلغت بي الفاقة إلى درجة راودتني فكرة الوقوف أمام جامع مرتيل مستعطيا المحسنين كما يفعل أولئك الذين تدفعهم الظروف الاضطرارية إلى الاستعطاء.؟ في وقت كان في استطاعة معذبي أن يطعمني ويسقيني لوجه الله دون أن يريد به جزاء ولا شكورا، وهو الذي دأب على إقامة الندوات في سيرة النبي عليه وآله الصلاة والسلام؛ فأين هي أخلاقه من أخلاق هذا النبي الكريم الذي كان إذا تكلم كفى، وإذا وعد وفى، وإذا صاحب صفى.؟ أيقيم هذه الندوات توعية للناس وتشجيعا لهم على التأسي بالنبي أم لمجرد التكسب وربما لنيل الشهرة التنظيمية على ظهر السيرة النبوية.؟
طال غيابنا عن بعضنا، أسر في مقهى "زنوا" حيث يقضي سحابة أيامه ولياليه حديثا إلى طالب يشرف عليه مثلي وهو الإيفواري كوناتي أرنا:
- لقد تأثرت كثيرا بقضية الأخ موسى؛ وأعترف أنه يعاني، وإن شاء الله سأنتهي من تصحيح بحثه في النصف الأول من رمضان (2006)، ولكن ما فعله هو الذي أغاظني، لقد أعطى نسخة من بحثه للدكتور توفيق الغلبزوري ليصححه له، ثم إنني حينما فتحت إسطوانته، وجدت فيها بحثا لطالبة إيفوارية...
جاءني هذا الطالب وأخبرني بما جرى بينهما في المقهى، وأضاف بصوت حزين:
إن هذا الأستاذ كذاب، لقد أسأنا الاختيار.
- وهل لك أن تفصح عما قال.؟
 -لقد وعدني بأنه سيرسل إلي الإذن بالطبع عبر البريد كما قال لك منذ عام، وأنه سيساعدني في الحصول على المنحة من الإيسيسكو، ووعدني بأشياء أخرى كثيرة جدا، غير أن ما أثار استغرابي، هو قوله بأنه سيرسل إلي الإذن بالطبع عبر البريد، وكيف ذلك وهو لم ير بعدُ بحثي وأنا لم أقدم له بعدُ أي شيء، ولا يدري أيضا ما بحثي وما لونه، والآن أدركت حجم المعاناة التي سببها لك، إنه كذاب، وإنني خائف جدا من أن يقع لي مثل ما وقع لك؛ لأنني سأجد مشاكل كثيرة إن ماطلني إلى هذا الحد؛ لأنه ليس لدي من سيمدني بالمال إن فقدت المنحة.
فقلت له:
-لأن تسمع عن المعيدي خير لك من أن تراه، لقد رأيته الآن. أنت الذي كنت معجبا به منذ البداية، حيث لاحظتك تدافع عن إجرامه في حقي بشكل ذكي، وعما قريب فسيأتي دورك وسترى.
-صحيح، لقد بدأت أرى.
ولا زلت لم أدر بعد كيف يكون في إعطاء القرص لذلك الدكتور الفاضل فضيحة له.؟ وأما بحث الطالبة الإيفوارية السيدة عائشة زوجة زميلنا مصطفى، فلا أعرف لماذا يشغل باله في التفكير في قضيتها، فلو أنه يجد في قرصي كل بحوث العالم فلا ناقة له في ذلك ولا جمل، وأظن أن ما يهمه هو البحث الذي يشرف عليه، وعلاقتي به تنتهي عند حدود الإشراف ولا ينبغي أن تتجاوزها. فليس علي حفيظا حتى يتدخل فيما لا يعنيه ولا أن يبحث فيما ليس من اختصاصه. فكم من مرة سألني فيها عن هذه الطالبة التي يهمه أمرها.؟ 
وفي عز رمضان الكريم الذي يتقرب فيه الناس إلى الله بصالح الأعمال، فإنه لم تمنعه حرمة هذا الشهر من الكذب علي، إذ قال لي لما جئته للإمضاء على مطبوع إعادة التسجيل:
-اتصل بي بعد العيد بخمسة عشر يوما لتأخذ بحثك.
وأضاف:
-وكيف أمر المنحة.؟
- لقد نفدت منذ يا أستاذ.
-اكتب طلبا سأوقعه لك لتقدمه للوكالة.
- هذا محال يا أستاذ.
-ولماذا.؟
-لقد انتهت السنة القانونية لي، ثم إن المدير الجديد لن يوافق.
-أنت أكتب فقط وآتني به.
ألح علي في الكتابة فوعدته بها ولكنني لم أكتب شيئا، لقد مللت من العهود الكاذبة، لم تعد المنحة تهمني بقدر ما يهمني المناقشة ومغادرة المغرب، ومن ثم الرجوع إلى أحضان البلاد، فهذا ما أطمح إليه، واتصلت به ذات مرة فبشرني:
- نهار الاثنين، لي معك موعد في الكلية على الساعة العاشرة صباحا؛ وأحمل لك مفاجئة طيبة.
قضيت أياما وأنا أخمن في طبيعة هذه المفاجئة الطيبة التي يحملها إلي هذا الإنسان الأشر، خمنت حتى تاه عقلي في موجة التخمين، وغلب على ظني، أنه سيحضر لي الإذن بالطبع مكتوبا، أتيت إلى الكلية يوم الموعد فقال لما قدم:
-لقد انتهيت من تصحيح البحث، ولكن تأتي يوم الأربعاء لنسحبه في مكتبي، لدي اليوم أشغال امتحانات السلك الثالث، وذكّرني قبل الموعد، وفعلا فعلت كما قال، حيث كان في حوزتي عشرون درهما كنت أحافظ عليه أكثر من محافظتي على سواد عيني، فغامرت مشتريا به بطاقة ميديتيل من فئة عشرين درهما راسلا إليه أكثر من رسالة إلكترونية Message تذكيرا له كما قال. توجهت إلى الكلية وأنا لا أنتظر إلا الخيبة، جاء ووجدني حيث أرابط كلما أقدم للقائه، سلم علي معتذرا:
-كان من المتوقع أن نسحب بحثك اليوم عندي في المكتب ولكني تفقدت المداد في طابعتي فوجدته غير كاف لسحب كل هذه الأوراق، ويوم الأربعاء، سيكون جاهزا إن شاء الله...
-يا أستاذ: هذا ليس بمشكل، ما دمت قد انتهيت من التصحيح، فأعطني القرص سأقوم بـــــ:Mis,en forme وترتيب الإحالات إنها مرونة.
-هذا ليس بمشكل، لقد عدلت كل شيء.
عدت أدراجي إلى حجرتي كالعادة وأنا أجر ذيول الخيبة، مستيئسا من هذا الذهاب والإياب الخاوي الذي لا ألقاه فيه إلا وأنا مستشيط غضبا عليه ومتطير به غاية التطير، جاء في اليوم الموالي وهو يحمل كيسا بلاستيكيا فيه بحوث طلاب السلك الثالث مصحوبا بالأستاذ الشافع، جاءا لمناقشة بعض الطلاب، نهضت لهما مسلما عليهما. بدأ يخطب:
-اليوم لدينا مناقشة، وهل بإمكانك أن تنتظرني هنا إلى الواحدة.؟
 -أجل، يا أستاذ، أجل.
وقلت في نفسي:
-سأنتظرك هنا إلى ألف سنة إن كان ذلك سيضع حدا لهذه العذابات.
وردف:
-لا تنتظرني، لأنني ربما سأتأخر، الأحسن أن تمر عندي في المنزل.
ووقف هنيهة ثم قال:
-لا، لا تمر عندي في المنزل.
-وكيف سنفعل إذن.؟؟؟
-وقف مبهوتا
خرف في الكلام يومه متهافتا في المواعيد؛ وهو لا يدري الموعد الذي يمكن أن يحدده لي، لقد ضرب لي مواعيد كثيرة: طلب مني اللقاء في الغدو والآصال فذهبت ولم يحضر، والآن؛ لا يعرف ماذا يقوله لي. وضع سبابته على صدغه مغمضا طرف عينه اليمنى وسألني:
-هل تريد الإذن بالطبع الآن.؟
-أجل يا أستاذ
-إذن انتظرني هنا خمس دقائق.
انتهزت هذه الفرصة وذهبت مسلما على الأستاذ الشافع الواقف في الدهليز مع صديق له يتحاوران ثم عدت إلى رباطي كالبرق الخاطف، قبل علي وفي يده ورقة بيضاء وسألني عن اسمي ورقم تسجيلي بالكلية، ولحسن الحظ كان لدي بطاقة الطالب في جيب جاكيتي سلمتها له فكتب ما يشاء.
وفي أثناء ذلك؛ دنا منا الأستاذ الوسيط ففرحت حينما اقترب ليكون على كل شيء شاهدا، وليعلم أنني مازلت أئن في يد الأخطبوط. أخذني هذا الأستاذ اللطيف من ذراعي الأيمن وقال كعادته مازحا:
-وما تلك بيمينك يا موسى.؟
-.....
ثم خاطب صديقه بصوت سمعه الطلاب الذين ليست مشكلتي عنهم بخافية:
-السي عزيز، يجب أن تطلق سراح موسى، لقد تعطل بالزاف.
فقال له كاذبا:
-في هذه الأيام سينتهي كل شيء.
فرغ من كتابة ما أراد من معلوماتي ووضع الورقة في سلة المهملات-حقيبته-والتفت إلى شفيعي إليه وقال له:
-فكرني يا توفيق بقضية موسى حتى ما أنساش.
وأضاف أهلكه الله:
-ويوم الخميس، اتصل بي يا موسى لتأخذ الإذن بالطبع.
-إن شاء الله سأتصل بك يا أستاذ.
وفعلا اتصلت به فقال لي كلاما ظللت على إثره داخل المخدع مذهولا وفاغر الفم:
-أنت غير استرحْ، أنا من سأتولى كل شيء، فخمس النسخ التي ستدفعها للكلية أنا مكلف بهم، أعرف وضعك وأعرف أنك تعاني، ويجب علي إذن أن أخدمك، وستناقش قبل مارس2007، أنت إن شاء الله رهن إشارتي، غير استرحْ...
يا إلهي.' لقد اعترف سعادة السادي بجرمه في حقي وبتجاوزاته الخارقة لكل الحدود، إذن؛ فهذا الظلم مقصود.؟ متسائلا عن هذه الخدمة التي يقول إنها يجب عليه أن يسديها إلي والمتعلقة بطباعة بحثي، هل هي في الحقيقة إحسان أم أنها مجرد التكفير عن ذنوب اقترفها في حقي.؟ إنه يريد أن يصلح ما أفسده، ولكنه يجهل؛ أنه لو أحسن إلي بإحسان كل المحسنين؛ فإن ذلك لن يغير شيئا من كراهيتي الشديدة له، وكيف لي أن أفرح بخدمة تقدم إلي في طبق من الإهانة والإذلال.؟ أما ظل أعواما يحرقني بالنار حتى نزفت دماء كثيرة ثم يأتي وينفخ علي، إن الظالم هو الذي ينسى ولكن المظلوم لا ينسى أبدا.'
على أي سنرى إن كان صادقا في نواياه أم كاذبا، ذهبت توا واشتريت علبتين من الأوراق البيضاء كما أمر، وقال إن المداد سيكون على حسابه، تصور هذه الخدمة المجزأة، وهو مع منزلته عاجز عن تحمل مصاريف علبتي أوراق البيضاء فيا لها من صدقة يتبعها أذى.؟؟؟
لم أكن يومه أملك نقودا لكي أشتري بها هذه الأوراق، احترت في الأمر، واهتديت بعد طول التفكير إلى طالب سنغالي وتسلفت منه 80 درهما لشراء العلبتين، أحضرتهما إلى الكلية يوم الموعد وقعدت منتظرا إياه كالعادة وقال لي لما جاء:
-باقي ما كملتش التصحيح، في كل مرة كيضهر لي شي حاجة، اتصل بي نهار الجمعة، سنسحبه عندي في الدار.
وقفت مبهوتا وأنا أتساءل عن هذا الشيء الذي ما يزال يظهر له في هذا البحث بعد كل هذه الأعوام، فهاتفته يوم الجمعة وجدته قد أقفل الهاتف، استقلت التاكسي توا متوجها إلى مربطه بمقهى "زنوا"، ورأيته إذ أنا سائر على الرصيف جالسا في الطابق العلوي من المقهى، دخلت إلى تليبوتيك وهاتفته من جديد ولكنني وجدت الهاتف مقفلا أيضا، وحتى لا أزعجه، وقفت جانبا أمام المقهى في انتظار خروجه، وبعد هنيهة؛ خرج ووجدني واقفا فقال والكذب في وجهه:
-أنت الذي اتصلت بي الآن.؟
-أجل
-أخذت الهاتف ولكنني لم أكن أسمعك جيدا، إن البطارية كانت خاوية
-آه لا بأس يا أستاذ، والآن جئت لنسحب البحث ولدي الأوراق.
-نلتقي في الكلية، وأعدْ هذه الأوراق إلى مولاها، أنا من سأتولى كل شيء.
-يا أستاذ، أنا معذب بالزاف، ألا تحاول أن تفك أسري، أريد العودة إلى بلادي.
فتر فمه عن ابتسامة غامضة:
-نتواجد في الكلية، داخلا يده إلى حقيبته وقد ظننته  سيسلم لي القرص فإذ به يمد لي يده قائلا:خذ هذا 50 درهما واذهب إلى الانترنيت تبحث عن بعض المراجع للفصل الثاني.
لم أذهب إلى الانترنيت؛ فلم أعد بحاجة لا إلى مصادر ولا إلى مراجع أخرى، وهاتفته بعد أسبوع مضى فالتقينا في المقهى ذاته، ووجدته هذه المرة جالسا يحرر شيئا ما، إنه الإذن بالطبع، ولما فرغ من التحرير وأطلعني على أسماء لجنة المناقشة ثم سلمه لي في ظرف مقفل آمرا إياي بتقديمه إلى تلك الموظفة الشرسة بمصلحة الدراسات المسماة نعمت لتسلمه للعميد. وأضاف كلاما أدهشني:
 -كان في نية ديالي بس نعطيك مسائل ديالك دغية، ولكن انتينا، مشيت عند عباد الله، وهذا اللى ما أعجبانيشي. (كان في نيتي أن أقدم لك مسائلك في وقت مبكر، ولكنك ذهبت عند الناس وتكلمت عني. وهذا الذي لم يعجبني).
وجمت مذهولا مما سمعت، لقد أفصح عن الحقيقة، إنه إذن انتقام ولا شيء غيره، لم يكن لدي ثمن المركوب لأعود على جناح السرعة إلى الكلية، كنت خائفا أن يغير رأيه، لذا خرجت من المقهى مسرعا مودعا إياه ومشيت راجلا صوب الكلية، كنت أجري أكثر مما أمشي، لم أكن قد أفطرت بعدُ، لقد تركت خبزتي الحافية فوق طاولتي والنافذة مفتوحة أكيد أن أصدقائي العصافير التي تؤنسني في تلك الحجرة بزغاريدها الصباحية الجميلة ستفطر بها، الله يجعل فيها البركة.!!
 لم يهمني الجوع هذا الصباح بقدر ما أهمني أن أسلم هذه الورقة اللعينة التي طال انتظارها لمصلحة الدراسات، أمشي وظللت ماشيا حتى أرهقني المشي الطويل، ولما بلغت كليتي المفضلة أصول الدين وقفت في جانب الطريق قبالتها لعلّي أجد صاحب سيارة خصوصية يعطف علي ويوصلني إلى جامعة عبد المالك السعدي بالبركة، وقفت طويلا وأنا ألوّح لأصحاب السيارات بلا جدوى، ولحسن الحظ، أتى صاحب شاحنة صغيرة نعرف بعضنا في الجامع الكبير بمرتيل فلوّحت له فأوقف سيارته وأقلني إلى الكلية، ولما بلغناها نزلت شاكرا إياه متوجها توا بالورقة إلى مكتب تلك السيدة الشريرة نعمت ولكنها رفضت قبول الظرف وعنفتني بمجرد أن مددت إليها يدي وقالت وهي عبوسة كالبومة:
-ماذا فيه.؟
-أنا لا أعرف، ولكنه الإذن بالطبع
- ومن طرف من.؟
-المشرف
-ومن هو المشرف.؟
-شهبر
- قل للمشرف عليك أن يأتي ويقدمه بنفسه إلى العميد، أنا لن أصعد به إليه، رافضة رفضا قاطعا دون أن أعرف أسباب هذا الرفض.
وقفت محتارا، ساورتني فكرة الاتصال به، غير أنني خفت إذا ما اتصلت به وأخبرته بما قالته هذه الشريرة نعمت أن أضع الزيت في النار فأتسبب في إحراق نفسي وربما الكلية بكاملها، إن الضغائن بينه وبينها مضمرة في صدورهما وليسا على وفاق، وكل منهما ينتظر الفرصة السانحة للنيل من الآخر؛ فلم أرد إطلاقا أن أكون من يوري نيران هذه الأحقاد البركانية المؤججة بها صدورهما، فصرفني التوجس عن الاتصال لئلا يحدث لي ما لا يحمد عقباه، فلقد أنهكتني مشاكلهما غير المنتهية. تدخلت مساعدتها السيدة سلوى وهي ممن يثني عليها الطلبة، ولكن المسكين لا حول لها في هذه الإدارة ولا قوة؛ فاستعطفتها لأجلي:
-خذيه منه، المسكين تعذب بالزاف ناظرة إلي بعين العطف والشفقة....
فَلاَنَ قلبها القاسح وأخذته مني قائلة:
-لن أدخل به شخصيا على العميد وإنما سأتركه لدى كاتبته، وسأقول إن شهبر هو من جاء به.
رجعت إليها بعد أسبوعين لأتأكد من تقديمها الرسالة للعميد، دخلت عليها سائلا إياها:
-صباح الخير
-صباح النور
-اسمحي لي، هل سلمت الورقة للعميد.؟
-أية ورقة تقصد.؟
-تلك التي جئت بها من طرف شهبر
صمتت وهي ترمقني هنيهة حتى احترت من صمتها الغامض، ويا ليتني ما سألتها، وضعت شيئا ما كان في يدها وسرعان ما ثارت طالعة علي ككلبة مسعورة وهي تزمجر زمجرة البغلة الغاضبة، احمر وجهها كالنار  الحامية ونفش شعرها كالمجنونة مكشرة عن أنيابها السامة كالأفعى منهالة علي بالشتائم المقذعة والإهانة:
-لماذا أتيتني بالإذن بالطبع بدون البحث، لماذا.؟ لقد قلّبت على بحثك كثيرا بين الأطاريح فلم أجده، كنت أعتقد أن بحثك موجود فإذا بي أبحث عن شيء وهمي...
-.......
-هيا تكلم،
-....
ألا تتكلم صارخة علي صرخة مهينة وصوتها يتهدج بالغضب:
-لماذا تفعل هذا، أُنْتِيْنَا(أنت) كتُخَوَرْ بالزاف.
حاولت إفهامها:
-اسمعي أيتها السيدة؛ أنا لست بمن كتبه وإنما أنا مجرد رسول إليكم.
وسرعان ما قاطعتني بالعنف أيضا:
 -اسمعني جيدا، إن ما فعله المشرف عليك إنما هو تصرف غير لائق، انتظر سأتصل به بنفسي.
توسلت إليها فورا  مستصبرا إياها حتى لا تؤزم مشكلتي:
-أنتِ تعرفين كم عانيت معه، فهذه فرصة لي لكي تساعديني الله يرحم لك والديك...
بيد أنها لم تكن تستمع لما أقول ولم تكن أصلا ترغب أن تستمع، وإنما واصلت زمجرتها وظلت تزمجر حتى خفت من تفاقم المشكلة، وبعد ما أسمعتني الكلمات الجارحة والمهينة، التفتت إلي قائلة:
-وكيف سأساعدك.؟
-قولي له فقط إنك قد توصلت إلى الإذن بالطبع وإن العميد يريد البحث، اتصلي به وقولي له هذا فقط، فقط، الله يرضى عليك.
-صافي سأفعل، صافي
وفعلا اتصلت به، ولما التقينا أنا وإياه أخبرني بذلك، وبدأت الأمور تتحرك، حيث ما كان له مندوحة أخرى غير طبع البحث وإيداعه في الكلية في أقرب الآجال، كان قد وعدني بأنه سيتكلف مصاريف الطباعة ولكنه لم يف بوعده، وكيف سيفي به وهو ليس شريفا، فالشريف إذا قال وفى، وأما الأنذال أمثاله فلا عهد لهم ولا فاء، وإنما اكتفى بتسليم أسطوانتي cd إلي آمرا إياي بالذهاب إلى الكاتب العام ليطبع لي بحثي في مكتبه، غير أن هذا السيد اعتذر لعدم الإمكانية، ثم أرسلني إلى سيد في عمادة الجامعة فلم أمتثل.
وفي غمرة هذه الحيرة التي انتابتني في قضية الطباعة، ساقني صديق سنغالي إلى الأستاذ الخلدي في المدرسة العليا للأساتذة بمرتيل يعرفان بعضهما وكلمه في شأني بخصوص مساعدتي على طباعة بحثي في مكتبه، طلب مني هذا الأستاذ العودة إليه غدا على الساعة العاشرة، فأتيت قبل الموعد إلى جاري السي مرباح وهو طبيب بيطري نسكن نفس الحومة، وأخبرته بأمر هذا الأستاذ فأثنى عليه خيرا وأكد لي أنه يعرفه وأنه إنسان خدوم وطيب، اتصل به طالبا منه مساعدتي شارحا له كل ظروفي فطمأنه الخلدي وطلب مني ملاقاته صباحا مخبرا السي مرباح بأن طالبا سنغاليا كان قد كلمه بنفس الخصوص قائلا له:
-قل له يجي عندي غدَا الدنيا هانية
-واخا سلاما
ذهبت إلى الخلدي يوم الموعد على الساعة العاشرة التي حددها ووقفت حتى الواحدة دون أن يظهر الخلدي، ولما أذن لصلاة الظهر، ذهبت إلى الصلاة ثم رجعت فور ما انتهت واقفا أيضا حتى السادسة مساءا، لم يقدم الخلدي، لقد غيّر رأيه دون أن يخبرني.! والتقى بموريتاني ذات يوم يعرفني فأسر إليه حديثا عني مفاده أنه وعدني فعلا بطبع بحثي على نفقته الخاصة غير أنني اتصلت بالبيطري السي مرباح ليكلمه ثانية، وأن ذلك ما أساءه وجعله يرفض عن المجيء يوم الموعد؛ فشرح له الموريتاني قضيتي فأمره أن يخبرني بالمجيء في اليوم الموالي لنسحب البحث ولكنني لم أستجب لدعوته وإنما فضلت عدم الرجوع إليه بالمرة، ولم أرغب أصلا أن أراه بعدُ في حياتي إنه شهبر آخر فما أكثر الشهبريين في المغرب.'
عدت إلى الطالب السنغالي والسي مرباح وأفدتهما بما فعله بي هذا السيد المعدود من الشخصيات البارزة بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان، فخجلا من فعله المشين، خصوصا السي مرباح الذي كان قد وضعه في مصاف المربين الأجلاء، ولكنه يومئذ أنزله إلى أسفل السافلين باصقا عليه:
-الناس ديال اليوم خيبين بالزاف وكدابين انتظر أتصل به.!!!
-لا تفعل يكفي أنك فعلت حسن النية ولكنه خيبك الله يجازي والديك لقد فعلت لي الكثير فأنت الجار الطيب الذي لا ينساني وكثيرا ما تدعوني إلى الإفطار وتعطف علي الله يجازيك بالخير وحتى إذا إلتقيته بوما ما فلا تكلمه أبدا في الموضوع صافي.؟؟؟
-صافي هازا رأسه هزات العطف والرحمة.
 كابدت صنوفا من المعاناة من أجل الحصول على الإذن بالطبع، فها هو بين يدي منذ أسابيع غير أنني عاجز ماديا عن طبع بحثي.' بيد أن أرض الله واسعة، وعبادَه المحسنون ما يزالون على أرضه بالعديد، وهناك قلوب ما تزال تنبض بالرحمة وتقطر بالعطف والحنان؛ فالسي محمد... الشاب العطوف والحنون، وشريفته الأخت الفاضلة والمحترمة هاجر حيون، نعم الزوجان هما، وشرفت العائلة عائلتهما، ورحمت القلوب قلوبهما، وجادت اليد أيديهما، هم من التبر المغربي النادر، اتصلت بحرته ولله درهما وهي في الرباط لبعض شأنها مخبرا إياها بكربتي، وللتو، طلبت مني إرسال البحث إليها عبر البريد الإلكتروني لزوج أختها السي بشير وسحبت نسخة من طابعته، وغيرت برنامج عملها لخدمتي وأتت على جناح السرعة إلى تطوان حاملة إلي البحث، لم أصدق حينما رأيته معها، وبلغت إنسانيتها أقصى مداها أنها تكفلت كاملة مصاريف عشر النسخ التي تقدم للكلية، وكومت هذه النسخ في الكراطين وجائتني بها في سيارة زميلتها الوفية الحنونة والخدومة مثلها بنت الشرفاء "كريمة بوعلي" التي أقلتنا جميعا إلى تلك المصلحة التي كانت بالنسبة إلي كابوسا، فذهبت مسلما بحثي للإدارة وأنا لا أصدق فقالتا مهنئتين إياي:
-هنيئا لك يا موسى، غير ادع معانا وصافي، وإلى احتجت شي حاجة فقلها لنا بلا ما تحشم واخا.
-واخا الله يجازيكما بالخير ويرحم لكما الوالدين
-آمين
وقفت فاغر الفم وأنا لا أدري ما أقوله لهؤلاء الرحماء، لقد فرجوا عني كربة كبيرة من كرب دنياي. فالله تعالى وحده هو جازيهم سائلا إياه أن يفرج عنهم كرب دنياهم وآخرتهم، "كل شي كيفوت إلا الخير"، إنها خدمة تظل غير منسية مدى حياتي، إنني لهم من الشاكرين، وتوجهت إلى أقرب مخدع هاتفي متصلا بسعادة السادي وكان وقتئذ في إدارة الشعبة، رفع السماعة قائلا:
-ألو اشكون معايا.؟
-أنا موسى الغيني
-أهلا بك يا موسى لا باس عليك.؟
-لا باس، لقد وضعت بحثي اليوم في مصلحة الدكتوراه.
فأجابني متعجبا:
-أوضعته.!
-أجل
-ومن طبعه لك.؟
-أحد المحسنين في حومة ديالنا
-قل لي اشكونه.؟
- محسن وصافي
-هنيئا لك هنيئا، كنت في انتظارك هنا في الشعبة لتأتي ونطبع بحثك.
-شكرا لك، لقد طبعته
قائلا في نفسي حينما أقفلت السماعة:
شهور وأنا أذرع وراءك تطوان والكلية جيئة وذهابا وفي كل مرة تكذب علي، وتقول لي بعد كل هذا إنك كنت في انتظاري لطباعة بحثي، أُدخل أنت ومدادك وأوراقك وطابعتك في أست الفيل، ولا تقبّل الله منك ومن أمثالك أعمالكم.
وفي 17 من شهر يناير الجاري 2008 سأناقش، إعلان رأيته بالأمس معلقا في محل الإعلانات بالكلية، وأخيرا  أُعلن عنه بعد انتظار دام أعواما، إنني لم أتوقع ذلك ممكنا بالمرة، لقد احترقت كثيرا وكثيرا جدا على جمرة الانتظار الطويل حتى كدت أذوب، إنه خبر لم أصدقه إطلاقا ولكنه كان فعلا النبأ العظيم الذي تعذبت من أجله أعواما.!!!
 أسرني سرورا غميقا، بيد أن ثمة قلق آخر اجتاحني وتعلق مثلا بالاستعدادات لهذه المناقشة: حلوياتها، ومشروباتها، وتصوير مجرياتها، إنني لا أتوفر على المصاريف ولكن، بما أن الله هو الكريم الذي يجعل العسر يسرا ، ذهبت يوما إلى حفلة تكريم الأديب المغربي محمد أنقار والتي أقيمت في قاعة الندوات بالكلية، وتجمعني به علاقة وطيدة فأنا من الطلاب المولعين بكتاباته الأدبية، فهو المشعل الذي أنار لي مسالك الكتابة الروائية، وبعد الحفل، التقطنا صورا تذكارية، فأخبرته بأن المناقشة التي طال مخاضها، قد أعلن عن تاريخها، سُر بالخبر أكثر مني إذ ضمّني إليه بحرارة شديدة معانقا إياي عناقا ملتاعا وملتاعا مهنئا واعدا إياي في الحال بتحمل كافة المصاريف المتعلقة بها:
-لا تقلق، سأتولى مصاريف التصوير، وسأبعث إليك الشخص الذي يصور لي في المناسبات، وسيأتي الحلواني بالحلويات والمشروبات، وسأحضر أيضا شخصيا، أنت اهدأ فقط ورتب مسائلك جيدا، إنني مسرور للغاية...
وفّى بما وعد، إنه كريم وابن كرماء، وشريف ووُلد الشرفاء، ضخني بالأمل مخففا عني رادا إلي الابتسامة، وإنني له من الشاكرين مدى الدهر.
أتيت يوم المناقشة اليوم الموعود قاعدا أمام لجنة متكونة من ثلاثة دكاترة والسادي رابعهم، ونتيجة المناقشة معلومة لدي ومجهولة لدى الحضور، لم أكن متفائلا أبدا، إن النتيجة لن تكون إلا الخيبة الكبيرة، وأنى لي أن أتفاءل مع مشرف يكره كلانا بعضنا بعضا كرها شديدا، افتتح رئيس اللجنة الجلسة معطيا له الكلمة بصفته مشرفا، أخذه، وأنصتتُ باهتمام كبير لما سيقوله، إنني أعلم مسبقا أنه لن يقول إلا الأكاذيب، وقال متصلفا:
-موسى؛ طالب له أخلاق عالية وصفات حميدة، وأينما يذهب يستقبل بالاحترام، وهذا ما يعرفه به الجميع...
كلام قاله بشفتيه وليس من قلبه، وسرعان ما انقلب علي مضيفا:
-جاءني لأسجله بوحدتي، وغاب عني فترة ثم جاءني بالبحث جاهزا، وما أثار استغرابي هو أنه غيّر العنوان بعد الطبع؛ فهذا ما أعرفه عن الطالب، متبرئا مني ومن عملي حاملا إياي مسئولية ما ستسفر عنه المناقشة.
مرر رئيس اللجنة الكلمة إلي؛ فقدّمت عن عملي عرضا موجزا مثنيا عليه خلاله كل الثناء، شاكرا إياه وحامدا وممجدا مع أنه لم يكن يستحق ذلك إطلاقا، ولكنه النفاق المفروض على الطلبة الباحثين بالمغرب.
أخذ المناقشون الكلمة واحدا تلو الآخر، وانصبت ملاحظاتهم كلها على تلك المنهجية الهشة التي فرضها علي، وعلى هفوات لغوية قال لي المخادع إنه قد صححها.' لم يقرأ البحث؛ مع أنه ظل معه ما يناهز 3 سنوات، لا قرأه هو، ولا أرجعه إلي لأقرأه بنفسي، ولا أشك أبدا في أن الأمر كان مكيدة منه للانتقام مني، أسمعوني ذلك اليوم كلمات أقرب إلى الاستهزاء منه إلى الملاحظة العلمية. فهذا يقول:
-أنت أعجمي لا تعرف اللغة العربية.
وذاك يقول:
-أنت من طينة خاصة وستكون مناقشتك من هذه الطينة.
 إنها كلمات دأب الطلبة الأفارقة ممن في شعبة الدراسات الإسلامية على سماعها في القاعات والمدرجات أيام المناقشات، يركزون على عجمة الباحث أكثر منه على عمله، ولكن؛ ما الفائدة من إثارة قضية العجمة والتغريد بها في المناقشات.؟ فهل هي من قبيل التهكم علينا أم ماذا.؟ لقد ملت مسامعنا من سماعها وإن نفوسنا منها لتشمئز، فأنا أصلا أعجمي اللسان فما الفائدة من إثارة هذه النزعة الجاهلية.!!!
وما أثار دهشتي كثيرا هو أن أحد المناقشين المدعو: مصطفى الغاشي الذي كانت موازينه عندي ثقيلة بالاحترام والثقة العلمية، قال يومه كلاما في غاية التملق أبان لي عن ضعف شخصيته:
-عند ما فرغت من فحص بحث الطالب كوناتي موسى عمر وجدته بحثا قيما، لقد قدم للمكتبة المغربية عملا مهما، ولكنه في الحقيقة تقرير وليس ببحث علمي؛ فهذا ما أقنعني به أستاذه المشرف السي عزيز...
ولك أن تتصور نتيجة مناقشة أقنع فيها الأستاذ المشرف مناقِشا بعدم علمية بحث أشرف عليه.!!!
كنت جالسا قبالتهم ونفسي مليئة بحقائق عن هذا الأستاذ المشرف وبالأحرى "المسرف" ولكن الرعدة صرفتني عنها وجعلتني مستسلما للوجوم رغما عني، وبعد ساعات من الجلوس الطويل الذي أرهقتني خلاله الانتقادات اللاذعة، رُفعت الجلسة، وخرجوا للمداولة، وعادوا بعد برهة لإعلان النتيجة المتحصل عليها، فنهض لهم الجميع، ووقف رئيس اللجنة وسطهم وألقى خطابا طويلا أملّ الناس، حيث لاحظت على الحضور أمارات الضجر والسآمة، لقد قضوا ساعات طوال جالسين وكادوا يقضون مثلها واقفين، لذا، تذمروا كثيرا حتى إن البعض منهم غمغموا مستائين، وقال بعد خطابه الممل:
-قررت اللجنة قبول عمل الطالب ومنحَه شهادةَ الدكتوراه "مشرف" وتشترط عليه أن يعيد قراءة البحث ويصحح الملاحظات ويأتي بنسخ جديدة يوقع عليها المشرف.
وقبل أن يرفع الرئيس الجلسة أخذ سعادته غير المحترمة الكلام واشترط:
-لست بوحدي من يوقع بل يجب أيضا أن يوقع كل أعضاء لجنة المناقشة على النسخة المصححة.
إنها نتيجة مهينة وُشمت بها يومه مع التوبيخ بالقصور وعدم جودة العمل، وهكذا فعلت بي أقداري المتعثرة، ألمحت السادي منبهرا بهذه النتيجة حتى إنه أرسل إلي إشارات من عينيه هازا رأسه، وكأنه يريد يقول لي:
- هذا هو جزاؤك يا موسى لقد نلت منك متنفسا سعيدا.
 نظرنا إلى بعضنا نظرات ذات معنى ونوايا كل منا مضمرة في نفسينا، النتيجة بالنسبة إلي غير مفاجئة، إنني كنت أتوقع ما هو أسوأ منها، لقد قال لي ذات مرة إنه سيخلق لي مشاكل ها هو قد فعلها، بيد أن الحضور المكثف من أصدقائي الأفارقة والمغاربة ممن قدموا من مرتيل وتطوان ومدن مغربية أخرى، أعزّوني بحضورهم هذا اليوم غامرين إياي بالسعادة العارمة والسرور الغميق، مسعفين إياي بكلمات أنستني هموم هذا الإشراف الذي دام أعواما، وسيظل جميلهم راسخا في ذاكرتي إلى الأبد. لم تجف دموعي مع المشرف السادي حتى بدأت المشاكل الإدارية من أجل الشهادة، حيث ظللت أنتظر شهرا كاملا ليوقع عليها العميد، ذارعا في الوقت ذاته إدارة الشرطة والبلدية جيئة وذهابا من أجل تجديد بطاقة الإقامة، وفي كل مرة يقال لي:
-سر واجي، باقي، ما زال، خصّك تستنى، ما عندناش ما ندير ...
 فكان ذلك ختاما سيئا لمسيرة إشراف مشوب بالآلام والشجو.' مرت المناقشة، ومرت أيضا تلك الأيام السود التي سيظل كابوسها يطاردني بين الحين والحين، ولم يبق اليوم في بالي إلا تلك الذكريات الحزينة التي ما من شك في أنها ستظل راسخة في متاحف الإشرافات التعسفية بالمغرب يحكيها الطلاب الباحثون المظلومون لزملائهم الطلاب الجدد المقبلين على البحوث حتى يحتاطوا عند اختيار المشرفين ولا يسقطوا في فخ الشهبريين.
XXXXX
   

 (5)
       لم يكن يقيم لنا نحن الذين أيدينا في العافية أدنى قيمة، وأنى له أن يفعل ونحن لا نسدي إليه إلا الضرر، لا يجالسنا، وما أن نحتاج إليه حتى يتهرب منا، وما أن نهاتفه حتى يقفل هاتفه، وما أن يعدنا أيضا حتى يراوغ، وقد ينطحنا بقرنه أو يدسنا بظلفه، وإذا ما زمجر، فإنه يزمجر زمجرة عجل غاضب.
من  2002 إلى 2008  لم أحظ خلاله من طرفه بجلسة علمية حول مجريات البحث ولو مرة واحدة، لا في مقهى من المقاهي ولا في الكلية، إنه يقبل الإشراف علينا لحاجة في نفس يعقوب.! فالطلبة الأتراك والخليجيون هم الناس المهمون الذين يتهافت عليهم ويسارع إلى تسجيلهم بوحدته، ويعاملهم معاملة خاصة ومميزة، يلهث وراءهم، ويحمل لهم حقائبهم، بل ويمسح أحذيتهم، ويبحث لهم عن المطبوعات مختلفا إلى فنادقهم آكلا حثالة طعامهم، داسا كرامة المغرب في التراب تزلفا للخليجي ذي "البترودولار"، مقتفى إياهم كالشيء وظله مقبّلا أيديهم، ولا يتردد لحظة في تلبية رغباتهم التي يكفي لتحقيقها مجرد مكالمة هاتفية.
إن التسجيل مستعص على الخليجين في السلك الثالث والدكتوراه ببلدانهم، لذا يفدون على المغرب الذي حوّله الشهبريون الأنذال إلى سوق للخردوات يجد فيها كل إنسان ضالته مهما كان مستواه المادي وبأبخس الأثمان، ويقدم لأولئك الخليجين ممن يتسجلون بوحدته أشياءهم جاهزة في طبق من ذهب؛ مسهّلا عليهم كل الإجراءات الإدارية، قائما لهم بدور الوساطة، لمِ لا، وجيوبهم المليئة بمفاتيح كل الأبواب تكسر لهم كل الحدود، وتطوع لهم الشهبرين أصحاب المزايدات والمصالح، فلا يجدون عناء في الحصول على التسجيل مثلما يجده غيرهم ممن كلامهم " مَيْسُوْسُ".'
ومن المروي عنه أنه في امتحانات السلك الثالث التي جرت في شهر أكتوبر لعام 2006 حام يومها حول زبونيْه المفضلين التركي والقطري حومان طيور النسر على الجثث، لفت وجود هذين الطالبين أنظار الطلبة المنتظمين، حيث لم يسبق لهم أن رأوهما قط خلال العام الدراسي، دنا من زبونيْه في قاعة الامتحان شارحا للخليجي الأسئلة منحنيا على ورقته قائلا له:
-افعل هكذا، ليس هكذا؛ اكتب هذا هنا وذاك هناك...
تهادت الوشوشة المتصاعدة بينهما إلى الآخرين، ولم يثر استغرابهم هذا الأمر، وإنما ذهلوا فاغرين أفواههم عن حدها حينما سلم القطري ورقته بعد مضي نصف ساعة فقط على بدء الامتحان لهذا الذي يبيع كرامة المغرب وغادر القاعة بالسرعة العجيبة، مع أن المادة الممتحن فيها تتطلب خمس ساعات.' وقال له صاحب سوق الخردوات وهو يستلم منه ورقته أمام عموم الطلبة:
- سنلتقي في الفندق مساء...!
التفت الطلبة إلى بعضهم البعض وهم عائمون في موج الاستغراب متسائلين عن السر في خروج القطري السريع؛ فهل أوحى إليه بائع كرامة المغرب والمغاربة شيئا مما لم يوح به إلى الآخرين أم ماذا حصل فعلا.؟ ثم لماذا الالتقاء في الفندق مع الخليجي.؟
 نحن نجري وراءه ليلا ونهارا ولكنه لا يولي لنا اهتماما، بينما يذرع الفنادق التطوانية جيئة وذهابا وراء هؤلاء الذين "لا بأس بهم"، وترجح تحليلات الطلاب أن يكون قد أوحي إليه ما أوحي، وإلا؛ فكيف يتصور أن ينهي امتحانا مدته خمس ساعات في ظرف نصف ساعة فقط بتلك السرعة العجيبة.؟ وتفترض التحليلات ذاتها أنه في حالة ما لم يجب عن الأسئلة وإنما وقع فقط ثم خرج؛ فلماذا لم يرسب في تلك المادة، وإنما كان حينما ظهرت النتائج من المتفوقين.؟ فهذا هو مربط الفرس.'
إن أولئك الخليجين لا يقيمون للتعليم المغربي أدنى قيمة بعد ما علموا أن وَجِدَهم يفتح لهم أبواب كل المستحيلات، إضافة إلى أنهم لا يلتزمون بالحضور، فإن العديد منهم لا يكلفون أنفسهم عناء كتابة بحوثهم وإنما يكتبها لهم "كتاب البحوث" الذين يعج بهم المغرب، وأنى لهم أن يكتبوها وأيديهم الرخوة التي تربت في "البرد" لا تقوى حتى على أخذ القلم فضلا أن يرهقوا أنفسهم في الاختلاف إلى المكتبات والجلوس فيها لساعات طوال، وما هو إلا الاستهتار بالبحث العلمي المغربي، بيد أننا لا نلوم هؤلاء الأتراك وأولئك الخليجين أصحاب الأبراج العالية، وإنما نلوم الشهبريين الذين يحولون المغرب إلى السوق السوداء تعج بكل ما هو ممنوع، إنها التجارة العلمية على حساب البحث العلمي المغربي.!!!
إن كان قدري قد تعثر وألقاني تعثره في أخاديد المشاكل والهموم، فإن أقدار صاحبيْ الإيفواري كوناتي مَاْمَاْدُو وتلك المغربية قد تعثرت أكثر من تعثر قدري، فلو استدبرا من أمرهما ما استقبلا ما تسجلا إطلاقا بوحدة السيد السادي، اجتاز الإيفواري الامتحانات الكتابية للسلك الثالث بتفوق، واختار لبحثه موضوعا حواريا جاعلا أنموذجه الكاتب الإيفواري أَمَاْدُو هَاْنْمْبَاْطِي باه، أذن له الأستاذ المشرف بطبع البحث وإيداعه في المصلحة، وأتى رئيس الوحدة أشهبار كما يقول الطلاب ذو النيات الخبيثة وأخذه وسلمه لأحد ماسحي حذائه المدعو "مونى"، الذي قرأ البحث وأمر الإيفواري وليس هو المشرف بتغييرات ما قال بها الأستاذ المشرف أصلا، رضخ المسكين للأمر الواقع وأعاد طباعة البحث من جديد ثم أتى به إليهم في الشكل المطلوب، وفوجئ حينما رفض "مونى" قبوله آمرا إياه ثانية بالذهاب إلى مخدومه رئيس الوحدة المسخوط أشهبار، فرفض هو الآخر قبوله محيلا إياه بدوره على حامل حقيبته "مونى" فامتنع هو أيضا، وظل يدور بين هذا وذاك محتارا في أمره وغير عارف بالحقيقة المضمرة وهم يمررونه بينهم حتى صار ككرة تتقاذفها الأرجل، وحيثما تتدحرج لا يلقى إلا الركلة العنيفة.
قدم يوم المناقشة، والمناقش هو "مونى" المتورط إلى العنق في إلغاء بحث مواطنته المغربية، ومرت المناقشة بطريقة غير مبشرة، وظل المسكين بعدها غارقا في بحر الهموم أياما وأياما طوال وشيء غريب يقلق راحته، وأعلنت النتيجة النهائية، فجاء إلى الكلية ووجد اسمه معلقا على الجدار ضمن أسماء الراسبين لقد رفضوا البحث لأسباب غامضة.
ذهب إلى رئيس الوحدة لعله يجد عند الجواب الشافي فقال له مستهترا:
-إلى العام الجديد إن شاء الله.
-وقف مذهولا لا دور ثاني ولا امتحان آخر والقسم سيغلق أبوابه ذلك العام بالمرة.
 لا يتلقى وحيا حتى لا تتخلل بحثه سقطات وهنات، وإنما كتب بحثا، ومن طبيعة البحوث أن لا تخلو مما اعترى بحثه، فعوض أن يقيّمه له بطريقة علمية فإنهم رفضوه ظلما، وكان من تعثر قدره أن الوحدة أقفلت ذلك العام بصفة أبدية، فقد المنحة، وعجز نتيجة لذلك عن توفير مصاريف الكراء ولوازمه، فأعفيناه نحن القاطنين معه في الشقة من كل شيء متكفلين أوده، عاش ظروفا أصعب من ظروفي، وظل مهووسا فكريا فاقدا الأمل، ولما رأى نفسه مرميا في الشارع، داوم على المشاركة في دروس صيفية ينظمها بعض النصارى الأسبان في كنيسة قديمة بمرتيل، حتى تعرّف إليهم،  فحاز على التأشيرة السياحية وغادر المغرب رفقتهم واستقر ببلادهم وصارت دنياه هناك "هانية ومزيانة" بعدما كانت بالنسبة إليه في المغرب "صعيبة وخيبة" ورحبت به بلاد النصارى في رحابها بينما ضاقت به بلاد المسلمين، إنه عواقب الظلم الذي مارسه عليه الأستاذ المشرف والمناقش ورئيس الوحدة.'
لقد استغربت كثيرا حينما سمعت بأن إحدى المنظمات الحوارية اتخذت هذا السادي غير المحترم سفيرا لها بالمغرب، وهذا ما يتباهى به صاحبنا في المجامع ويغرد به في المقاهي والندوات، ويا تُرى؛ فأي حوار يمكن أن يمثله هذا الذي ليس له سعي مشكور، ومقام محمود، ذو السيرة القاتمة...؟ لقد خسرت منظومة الحوار والحضارة خسرانا مبينا لما جعلت هذا النذل من خدمهما.!!!!
 غبطت طلبة سمعتهم يثنون على مشرفيهم ويدعون لهم بالخير مكافأة لهم على صنيعهم العلمي معهم؛ فكم تمنيت أن يكون لي مثلهم لأثني عليه وأدعو له، وأخلد ذكراه ما حييت وفاء له وعرفانا.؟ بيد أن قدري أبى إلا أن يتعثر ويسوقني إلى إشراف ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب النفسي والسادية.
لم أحقب منه طيلة فترة الإشراف غير العويل والندوب والحسرة، ولم أجد له أيضا ما أتضرع به إلى جازي الظالمين إلا اللعنة والمقت، إنني ألعنه، وسأظل ألعنه، وأعتقد أن كليْنا سيظل يتذكر الآخر مدى الحياة، فأنا لن أنساه، ولن تغيّبه أبدا في ذاكرتي زحمة الأزمان، وأنى لي أن أنساه وقد سامني سوء العذاب لمدة سنوات.؟ ولن ينساني هو ما ظل حيا، وكيف سينساني وقد شرفته بهذه الصفحات الشاكية تشريفا لن ينال مثله، مهديا إليه هذه الهدية الثمينة التي لن يظفر بمثلها قط وإن يعش الدهر كله، إنها هدية العمر.
 وما كان لتاريخ البحث العلمي المغربي أن يتولى دون أن ينفض الغبار عن هذا المسرف السافل ويميط القناع عن وجهه ويجعله آية للمتوسمين وذكرى للذاكرين حتى يشيع الوعي ويتحفز المسئولون لإيقاف الساديين عند حدودهم، وماذا سيكون جزاء أستاذ ظل على مدى أعوام يرمي بعباد الله المساكين في الأخدود ويقف على حافته متصنتا على عويلهم متلذذا به دون أن يرحم طالبا أو طالبة؛ لا مغربيا ولا أجنبيا، ويواظب على ذلك عقدا من الزمن ويحرص عليه، إلا أن يُجزى بمثل عمله؛ فالجزاء لا يكون أبدا إلا من جنس العمل(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، ولقد جهل مثلَهم القائل: العود الذي تحقره هو الذي يعميك، ولئن يمت وأنا في المغرب لأبحثن عن قبره، ولئن أهتد إليه؛ فلأتخذنه مرحاضا، إنه لا يصلح إلا أن يكون مزبلة.
غادرت المغرب وصورته مقترنة في ذاكرتي بعدم النسيان مستكينة في قلبي بالكراهية الشديدة والمقت العظيم. وصدق القائل:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا   *** فالظلم يرجع عقباه على الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبــه *** يدعو عليك وعين الله لم تنـــــــــم

3 commentaires:

  1. Ce commentaire a été supprimé par l'auteur.

    RépondreSupprimer
  2. Ce commentaire a été supprimé par l'auteur.

    RépondreSupprimer
  3. Cet odieux personnage, ce minable "Docteur" au passé trouble n'en est pas à un méfait près. Lui et son épouse, Mehdia Amnouh sont au centre de beaucoup d'intrigues que je conterai moi-même, à mon tour.

    RépondreSupprimer